الفساد يتفوق على كتلة الرواتب والأجور في حيازة الحصص من إجمالي ناتجنا المحلي…30 بالمئة للأول و 26 بالمئة للثاني.. ومفارقات تستوجب إعادة نظر

 

خاص – الخبير السوري

لا يتوقف العديد من الاقتصاديين عن المديح والتهليل لميزة اعتبروها أولى مشجعات جذب الاستثمار الداخلي والخارجي، دون أن يعيروا أي اهتمام لمعنى هذه الميزة من الجهة الأخرى، أو استكشاف مدلولاتها، أو يكلفوا خاطرهم النظر إلى تأثيرها على معيشة أغلبية السوريين، وخصوصاً ذوي الدخل المحدود، فانخفاض الأجور ليس ميزة وإنما هو مصيبة تنعكس بكل ثقلها وتداعياتها على تراجع الإنتاجية الفردية للعامل، وعلى الإنتاجية الكلية للمجتمع، لأن العلاقة بين الجانبين طردية، وهذا سيؤدي إلى خسارة الشركات والمصانع بسبب تدني إنتاجية العمل، ما يؤدي إلى تراجع مستويات الاستهلاك لانخفاض القدرة الشرائية لهؤلاء العاملين، وهذا ينتج –بالمحصلة- خللاً في الدورة الاقتصادية، وتباطؤاً في وتيرة النمو الاقتصادي، وخسارة للاقتصاد الوطني بأكمله..

 

خلل بتوزيع الثروة

رفع الأجور غير المقترن بارتفاع الأسعار خلال السنوات السابقة، أنتج تضخماً، أفقد هذه الزيادات معناها وجدواها في تحسين المستوى المعيشي للسوريين، وأدى لتراجع القدرة الشرائية للعملة الوطنية، وتراجعت مستويات معيشة الأغلبية، فسورية تعد من أقل الدول موازنة في العلاقة بين نسبة الأجور مقارنة مع الأرباح على مستوى الاقتصاد الكلي، وهذا مؤشر يصنف في خانة الخلل في توزيع الثروة لدينا، إذاً، فالخلل بين مستوى الأجور والأسعار بات خطيراً، وراحت آثاره تظهر على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهذا ما يدفع مجدداً لتأكيد ضرورة ردم هذه الفجوة المتضخمة يوماً بعد يوم..

وزيادات الرواتب والأجور لا تحقق غايتها إذا لم ترتبط بثبات في الأسعار، لأنها ستبقى في حدود الزيادة الاسمية للأجور، فإذا ما حصل هذا الارتفاع المرافق في الأسعار، فإن ذلك سيرتب تضخماً في الاقتصاد، وتراجعاً في مستوى المعيشة بالمحصلة، وهذا ليس في مصلحة المواطن أولاً، ولا في مصلحة الاقتصاد والوطن أخيراً..

 

2000 مليار حصة الأرباح فقط

تؤكد الإحصاءات أن ثلثي الناتج المحلي في سورية هو ملك الطبقة الغنية دون سواها، فكتلة الرواتب والأجور الإجمالية تصل إلى 703 مليارات ليرة سورية، وذلك مقارنة مع ناتج محلي يصل إلى 2700 مليار ليرة تقريباً، وهذا يعني وجود 2000 مليار ليرة من هذا الناتج هي حصة الأرباح، التي تتركز في أيدي فئة من التجار ورجال الأعمال بالدرجة الأولى، وهذا يعني أن حصة الرواتب والأجور تصل إلى 26% من الناتج المحلي الإجمالي فقط، وذلك مقارنة مع نسبة 74% هي حصة الأرباح في الناتج الإجمالي، وهذا ليس رقماً وهمياً قررنا وضعه لتبرير ما نريد قوله، وإنما جاء استناداً لأرقام مسح قوة العمل التي أجراها المكتب المركزي للإحصاء خلال النصف الأول من عام 2009 – وكانت آخر إحصائية بسبب إسقاطات الأزمة والحرب على سورية – والتي تبين أن مجموع المشتغلين في سورية هو 4,9 ملايين مشتغل، ومتوسط الرواتب والأجور الشهرية في القطاع العام يبلغ 12,830 ألف ليرة، بينما كان متوسط الأجور والرواتب الشهرية للعاملين في القطاع الخاص 9,680 آلاف ليرة، وهذا يوصلنا حسابياً إلى أن كتلة الرواتب والأجور الشهرية لإجمالي العاملين في سورية هي:

رواتب العاملين في القطاع العام شهرياً: 12,830 ألف ليرة × 1,4 مليون = 18 مليار ليرة شهرياً.

رواتب العاملين في القطاع الخاص شهرياً: 9,680 آلاف ليرة × 3,5 مليون = 34 مليار ليرة شهرياً.

وبالتالي فإن كتلة الرواتب السنوية لمجمل العاملين في سورية تعادل 18 + 34 = 52 مليار ليرة شهرياً × 12 شهراً= 624 مليار ليرة سورية، وإذا ما أضفنا إلى هذه الكتلة 79 مليار ليرة سورية تكلفة الزيادة الأخيرة على رواتب العاملين في القطاع العام في سورية، نجد أن وسطي الكتلة الإجمالية للرواتب اليوم هو بحدود 703 مليارات ليرة سورية..

المطلوب تصحيح علاقة الأجور والأرباح

المقارنة مع بعض الدول العالمية في مجال علاقة الأجور والأرباح ضرورية أحياناً لتوضيح حجم الخلل لدينا في مجال توزيع مكوني الناتج المحلي (الأجور، الأرباح) لدينا، ففي نهاية عام 2009، بلغت حصة الأجور في الناتج المحلي الإجمالي في أوكرانيا 49,1% مقابل 50,9% للأرباح، بينما متوسط حصة الأجور في الاتحاد الأوروبي 48,8%، كما وصلت حصة الأجور من الناتج المحلي الإجمالي في بعض دول الاتحاد الأوروبي إلى 54% مقارنة مع الأرباح، فصحيح أن نسبة نمو الأجور في أوروبا عموماً لا تتجاوز 2%، إلا أن هذا النمو غالباً ما يكون حقيقياً عن الأجور الفعلية، وليس معبّراً اسمياً عن هذا النمو فقط..

وبالعودة إلى هذه النسبة في اقتصادنا نجد أن 74% هي حصة الأرباح، ونحو 26% حصة الرواتب من الناتج الإجمالي، وهذا يعني أن الفجوة كبيرة بين حصتي الرواتب والأرباح في اقتصادنا، إذا ما أخذا كنسبتين مستقلتين، أو إذا ما تمت مقارنتهما ببعض الدول العالمية، وهي تعبر عن خلل حقيقي في توزيع الثروة، لذلك فإن المطلوب هو تصحيح العلاقة الكلية في الاقتصاد بين الأجور والأرباح لمصلحة الرواتب والأجور، والتي هي أخفض من النسب العالمية لهذه الحصة، حتى في الدول الرأسمالية الكبرى، ودون تصحيح هذه العلاقة لن يتحسن المستوى المعيشي للسوريين ولن تطرأ عليه تغييرات جدية، فالأسعار تزداد سنوياً بأضعاف زيادة كتلة الرواتب، وبالتالي فإن النمو المتوازن لهاتين الكتلتين سيفتح الطريق أمام نمو اقتصادي شامل متوازن، تخفف فيه بالتدريج التشوهات القائمة بين التناسبات الأساسية للاقتصاد الوطني، وبالتالي إيقاف تدهور الوضع المعيشي للأكثرية الساحقة من الشعب السوري.

 

آليات لتجسير العلاقة المختلة

عند الحديث عن ضرورة إعادة العلاقة بين الأجور والأرباح في اقتصادنا الوطني إلى نصابها الصحيح، وإلى علاقتها المتوازنة والضرورية، يخرج علينا الكثيرون بمزاعم عدم توفر الموارد الاقتصادية لرفع الأجور، وهذا في الواقع غير صحيح، لأن رفع الأجور المترافق مع ارتفاع الإنتاجية سيغطي تكلفة الزيادة على الأجور، وسيفيض عنها خلال آجال زمنية قصيرة، كما أن الأهم من هذا كله، هو أن تصحيح هذه العلاقة يتم من خلال فرض ضرائب ورسوم إضافية على أصحاب رؤوس الأموال (التجار، رجال الأعمال) بدلاً من التفنن في إعفائهم من الضرائب المترتبة عليهم، والتكرم الحكومي عليهم وإغماض الأعين عمداً عن نشاطهم الدؤوب في التهرب الضريبي فعلى الأقل يبدو المطلوب لتصحيح العلاقة هو تحصيل قيمة التهرب الضريبي التي تذهب لكبار المكلفين ليكتنزوها في المصارف المحلية أو البنوك الخارجية، والتي تصل قيمتها حسب تقديرات العديد من الاقتصاديين إلى 200 مليار ليرة سورية سنوياً، ” وهي قيمة التهرب الضريبي التي وردت ذات مرة على لسان وزير مالية سابق ولم يعد لتكرارها بعد المرة الأولى” بدلاً من إدخالها إلى الخزينة العامة للدولة، وعودتها بشكل طبيعي إلى شرايين الاقتصاد الوطني عبر الموازنة العامة، والاستفادة منها في الجانب الاستثماري عبر بناء المشاريع، والحد من نسب البطالة المزمنة لدينا، أو من خلال استثمارها في الإنفاق الجاري، والمساهمة في زيادة رواتب العاملين في الدولة، ما يساعد على تصحيح العلاقة بين الأجور والأرباح التي تعاني من خلل بنيوي مزمن أساساً، وساهم إهمال السياسات الحكومية المتعاقبة في تعميقها..

وهذه إحدى الآليات المساهمة في تصحيح العلاقة المختلة بين الأجور والأرباح على مستوى الاقتصاد الوطني، ولكن هناك آليات أخرى ومن أهمها تجفيف مستنقعات الفساد الذي يستنزف 30% من الناتج المحلي الإجمالي، أي إن نسبته تفوق حصة الرواتب والأجور، والذي هو في الغالب يعبر عن أرباح غير مشروعة تدخل إلى جيوب الفاسدين!..

 

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]