أخطر قاعدة أمريكية في الشرق تتنكّر بهيئة سفارة…اقرؤوا هذه التفاصيل

  • مركز دبلوماسي وأمني يتجاوز لبنان لتعويض الفشل الإسرائيلي في المنطقة

الخبير السوري:

العلاقة بين العمارة (الهندسة المعماريّة كما هو متعارف) والسياسة، من العلاقات غير المعروفة (أو بالحد الأدنى لا يتمّ الالتفات إليها) لدى معظم المعماريّين والسياسيّين على حدّ سواء، رغم التاريخ الحافل من الخدمات المتبادلة بين المباني والمخطّطات المعمارية والحضريّة (ذات الصلة بالتخطيط المُدُني)، وبين الأجندات السياسيّة على اختلاف وُسعِها. والتاريخ الذي نتحدّث عنه، هنا، يرجع إلى أكثر من أربعة آلاف سنة، حين أمر الملك البابلي نمرود ببناء برج بابل (بوّابة السماء بالآراميّة) في منطقة أور (جنوبي بغداد اليوم)، بهدف الوصول إلى السماء، إثباتاً لادّعائه الربوبيّة، وإمعاناً في تثبيت مُلكه وسلطته التي امتدّت حوالى أربعمئة عام، سيطرت فيها الحضارة البابليّة على مجمل مساحات العالم القديم (آسيا وأوروبا وأفريقيا). وفي التاريخ الحديث، تكثر الشواهد المعماريّة التي تحمل في طيّاتها أجندات سياسيّة ذات طابع يتراوح بين تشويه التاريخ، كسلسلة متاحف الهولوكوست حول العالم، أو استحضار التاريخ بهدف إسقاط هويّة معمارية ما، كالمساجد العثمانيّة التي بناها ورمّمها الرئيس الراحل رفيق الحريري في المدن الساحليّة الرئيسية (بيروت وطرابلس وصيدا)، أو استحضار المستقبل، كبرج خليفة (برج دبي) الذي وسم به الأمير محمد بن راشد آل مكتوم مدينة دبي كعاصمة اقتصادية عالميّة، علماً بأن تسمية البرج بإسم الشيخ خليفة بن زايد جاء بسبب ديون أبو ظبي لدبي إثر الانهيار المالي الذي لحق بها عام 2008. هذا الترابط بين العمارة والسياسة، يصل إلى حدوده القصوى مع مشروع بناء السفارة الأميركيّة الجديدة في عوكر (20 كلم شمال بيروت) الذي يقوم ببنائه مكتب عمليّات البناء ما وراء البحار OBO في الخارجية الأميركيّة، وأعدّ دراساته المعماريّة والحضريّة مكتب morphosis الهندسي، وتنفّذه شركة BL Harbert الدوليّة، في مشهد ملفت يُظهر اتساع الأجندة السياسيّة للإدارة الأميركية في بلد التعقيدات لبنان. كما يُظهر، في الوقت نفسه، الدور أو الأدوار التي قد تلعبها المباني، والعمارة من ورائها، في خدمة السلطات العابرة للأعراف والقوانين والشرائع الدوليّة

تحتلّ الولايات المتّحدة المرتبة الثانية عالميّاً (بعد الصين) في عدد البعثات الديبلوماسيّة في العالم، من بينها سفارات في 166 دولة (من أصل 193) من الدول الأعضاء في الأمم المتّحدة، ومراقب دولة في الفاتيكان، وسفارتان في كوسوفو وتايوان (غير مدرجتين في الأمم المتّحدة)، إضافة إلى مندوبين مشتركين في سفارات دول أخرى كإيران وسوريا.

في كانون الأول 1777، بعد انتهاء الحرب الأهليّة الأميركية وتوحيد الولايات على يد جورج واشنطن، كان المغرب من أوائل البلدان التي نسجت علاقات ديبلوماسيّة مع الولايات المتّحدة. وأسّس بنجامين فرنكلين أوّل بعثة ديبلوماسية لأميركا ما وراء البحار، في باريس عام 1779. في 19 نيسان 1782 أصبح جون أدامس أوّل سفير للولايات المتّحدة في هولندا بعد اعترافها رسميّاً بالحكومة الجديدة في أميركا. وفي السنوات التي أعقبت الثورة الأميركيّة، عمل الرئيس الأميركي جورج واشنطن على انتزاع الاعتراف بالدولة الجديدة، وانتدب مستشاريه المقرّبين في مهام ديبلوماسيّة إلى أوروبا، وفي عام 1790 كانت قنصليّة الدولة الوليدة في ليفربول أول قنصليّة ترعى المصالح الاقتصادية الأميركيّة في مدينة كانت تضمّ أكبر مرفأ بريطاني عبر الأطلسي في ذلك الحين. عام 1821، أهدى سلطان المغرب الأميركيّين أوّل قطعة أرض لبناء السفارة الأميركية عليها.

النصف الثاني من القرن التاسع عشر شهد توسّع الحركة الديبلوماسية الأميركية في العالم لأهداف عُدّت اقتصادية في حينها. فتتالى افتتاح السفارات في ليبيريا، بريطانيا، فرنسا، بلجيكا، روسيا، المكسيك وإسبانيا، إضافة إلى البعثات القنصليّة في إيرلندا، كندا، كوبا، إيطاليا وغيرها.

بعد الحرب العالميّة الأولى، بدأت حركة بناء السفارات الأميركية في العالم إثر إنشاء مكتب خدمات البناء في وزارة الخارجية عام 1926، والذي أصبح في ما بعد مكتب عمليات البناء ما وراء البحار Bureau of Overseas Building Operations.

عقب إعلان تأسيس الكيان الصهيوني، في 14 أيّار عام 1948، كانت الولايات المتحّدة أول دولة تعترف بالكيان الغاصب، وقدّم جايمس ماكدونالد (أحد المستشارين المقرّبين من الرئيس هاري ترومان) أوراق اعتماده كأوّل سفير أميركي في إسرائيل.

في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، نشطت الإدارات الأميركية المتعاقبة في تفعيل عمل سفاراتها في البلدان التي تشكّل طوقاً استراتيجيّاً للسوفيات في أوروبا (ألمانيا، بولندا، يوغوسلافيا، تشيكوسلوفاكيا، تركيا…)، وفي الدول المحيطة بمناطق النفوذ السوفياتي في العالم (كوريا، فييتنام، البرازيل، اليمن، بنما…).

  • 90 ألف متر مربّع من المباني و120 ألف متر مربّع من المساحات المكشوفة

ومع بداية حرب الخليج الأولى، إثر تسلّم المحافظين الجدد السلطة في الولايات المتّحدة، فتحت الإدارة الأميركيّة عينها من جديد على الشرق الأوسط، لتفتتح عهد تطوير السفارات الأميركيّة وتوسيعها في دول الخليج والصومال وأفغانستان ومصر والعراق. وتُعدّ السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء قرب مطار بغداد أكبر سفارة أميركية في العالم بمساحة تقرب من 500 ألف متر مربع.

وختام هذه السيرة المختصرة حول تاريخ السفارات الأميركيّة في العالم كان في لبنان، مع بدء التحضير، عام 2008، لبناء سفارة جديدة فيه، بعد الهزيمة التاريخية للكيان الإسرائيلي في حربه الفاشلة مع المقاومة اللبنانيّة صيف عام 2006.

مقاربة معماريّة وحضريّة

في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ساد اعتقاد معماري راسخ بالنظرية التي أرساها أحد روّاد العمارة في تلك الفترة، الأميركي لويس سوليفان، الذي لُقِّب بالأب الروحي لناطحات السحاب، وعُدّ من أهم المؤثّرين في مدرسة شيكاغو الشهيرة المسؤولة عن النموذج الأميركي الأبرز في عمارة كبرى المدن الأميركيّة وتخطيطها في مرحلة ما بعد الثورة الصناعيّة. هذه النظرية عُرِفت بالـ FFF أو Form Follows Function، أي أن الشكل الهندسي للبناء ليس سوى انعكاس لطبيعة الوظيفة أو الوظائف التي يحويها هذا البناء.

ولا شكّ في أن التصميم المعماري لمبنى السفارة الأميركيّة الجديدة في لبنان يعكس، بقوّة، نظرية الـ FFF. لا بل تخطّاها بأشواط عدّة، إذا ما اعتبرنا أن طبيعة الوظائف التي يحويها هذا المبنى، هي من التركيب والتعقيد والسيولة والافتراضيّة، ما يجعل الأشكال التي طوّرها مكتب morphosis الهندسي لاحتوائها في مبنى واحد، أشكالاً ضعيفة وهزيلة أمام هول الدور القادم لهذه السفارة.

على مساحة 90 ألف متر مربّع من المباني (المسقوفة)، و120 ألف متر مربّع من المساحات المكشوفة، تتوزّع لائحة كبيرة جداً من الوظائف والغرف غير المألوفة في المباني التقليدية لسفارات الدول. فعدا عن مساحات المكاتب المخصّصة للوظائف الديبلوماسية الاعتيادية، أو الوظائف القنصليّة، كمساحات الانتظار (الذي لا ينتهي ولا ينتهي) كحُجَر المقابلات المخصّصة للحصول على تأشيرات الدخول إلى بلاد العجائب، تحتوي السفارة على عدد من مراكز الأبحاث المختصّة، وفائقة التكنولوجيا، التي جرى الإعداد لحمايتها على المستوى الهندسي والأمني، بالتقنيّات نفسها المعتمدة في حماية المباني المصنّفة «غاية في الخطورة»، كالمنشآت النووية، وغرف «القيادة والسيطرة» في القواعد العسكرية الأميركية، والتي يُصنَّفُ خرقها تهديداً للأمن القومي الأميركي. كما تجري أعمال الإنشاءات باستخدام أنواع خاصّة جداً من الباطون والحديد والألواح المركّبة composite panels، وباعتماد بنى تحتيّة تعمل بتقنيات الـ BMS والـ BAS الفائقة الذكاء في إدارة ورصد تحسّس المباني.

  • تقنيّات البناء هي نفسها المستخدمة في حماية المنشآت النووية وغرف «القيادة والسيطرة» في القواعد العسكرية

وفي ما يتعلق بمراكز الأبحاث المختصّة، تضم السفارة مركزاً للرصد والقرصنة الإعلاميّة مهمّته العالم الافتراضي ومنصّات التواصل الاجتماعي، ومركزاً للتنصّت المعقّد التشفير يعمل بتقنيات وبرمجيات شبيهة بعالم الميتافيرس metaverse، إضافة إلى مركز للوضعيّة يقوم بتحديث لحظوي لكل المعطيات والطبقات المعلوماتيّة التي تجمعها السفارة عبر جيوشها الإلكترونيّة وغير الإلكترونيّة

كما تحتوي السفارة على عدد هائل من الوظائف ذات الصلة بالأفراد والمجموعات (اللبنانيّة وغير اللبنانيّة) التي تقع في دائرة المصالح المشتركة مع الإدارة الأميركيّة. في مقدّم هؤلاء، منظّمات المجتمع المدني (الحليف الجديد) والأحزاب ذات العلاقة التاريخيّة مع هذه الإدارة، إضافة إلى شريحة واسعة من الشخصيّات السياسيّة والاجتماعيّة والحقوقيّة والإعلاميّة والتنمويّة.

  • تضم السفارة مساحات تسمح بالتجمّعات الكبيرة وهو من الأمور غير المألوفة في المباني الديبلوماسية

السفارة الجديدة وفّرت لهؤلاء، ليس فقط مساحات للانتظار والمراجعة، بل وحتّى الترفيه. ولحظت التصاميم الجديدة مساحات كبيرة تسمح لهم بالعمل داخل مبنى السفارة. وهي، لهذا الغرض، احتوت على مساحات متفرّقة (أكثر من مساحة) مما يُعرَف بالـ co-work spaces، وهي نوع من الوظائف الجديدة التي توفّر إمكانية العمل المكتبي، في بيئة أليفة تجمع بين الاسترخاء والترفيه، على شاكلة تجارب كمقاطعة بيروت الرقميّة Beirut Digital District و961 وغيرهما. كما أن من اللافت تضمّنها مساحات تسمح بالتجمّعات الكبيرة نسبيّاً (كالاحتفالات الجماهيرية)، وهو من الأمور غير المألوفة في المباني الديبلوماسية الاعتيادية التي غالباً ما تحافظ على هوامش ضيّقة للاحتكاك مع الجمهور العام.

تبقى الإشارة إلى البُعد الحَضَري للسفارة الأميركيّة الجديدة، والذي عمل المخطّطون على مراعاته إلى حدود قصوى، نظراً لأهمية دمج السفارة في النسيج العمراني والبيئي للمنطقة المحيطة (عوكر)، لذلك، تدخّلت السفارة في مخطّطات التنظيم المدني للمناطق العقاريّة المحيطة، لتعديل الطرقات والتصنيفات ومحدّدات الارتفاق والتخطيط، بحجّة تقديم مشروع استثنائي للمجتمع اللبناني على المستويات الحضريّة والمعماريّة والبيئيّة.

الدور والوظيفة

عند هذا الحد، ينتقل الحديث إلى ما وراء العمارة والتخطيط المدني بمعناه العلمي، لنخلص إلى مجموعة من الهواجس المقلقة التي يحق لنا كلبنانيّين (منذ أكثر من عشر سنوات) الوقوف عندها، لا بل والتخطيط لتبديدها.

أولاً، إن الوظائف التي تم احتواؤها في مشروع السفارة الجديدة تتخطى المفهوم الاعتيادي والتقليدي لبناء السفارات المتعارف عليها بين الدول، إلى ما هو خطير ومقلق، يتعلّق بالمَدَيات الواسعة التي رسمتها الإدارة الأميركيّة لنفسها في انتهاك خصوصيّات الدول وفي التدخل السافر (والمفضوح) في شؤونها الداخليّة.

ثانياً، إنّ تسخير الإدارة الأميركيّة لأعلى قدراتها العلميّة والتقنيّة في خدمة التجسّس والتجنيد والتخريب، في بلد صغير كلبنان، يوضح بشكل قطعي أن دور هذا المشروع يتخطى الحدود اللبنانيّة المعترف بها وغير المعترف بها دوليّاً، إلى الحدود الافتراضيّة للكيان الصهيوني بكل أبعاد أمنه القوميّة والاجتماعية والجيوسياسيّة. وهو دليل دامغ على أن المعركة باتت في مربّعها الأخير الذي لا تنفع معه الحروب بالوكالة، بعد فشل أداء كل الوكلاء والأطر والاستراتيجيّات، بما فيها أداء إسرائيل نفسها، في الحفاظ على المصالح الأميركيّة الكبرى في المنطقة.

ثالثاً، السفارة الجديدة هي عنوان وشعار ورمز لشكل الحرب الأميركيّة المتجدّدة في المنطقة، والتي ينطبق عليها، وبقوّة، مفهوم الحرب الهجينة Hybrid Warfare التي نظّر لها فرانك هوفمان، أحد كبار المحلّلين الاستراتيجيين في فريق المحافظين الجدد، عند تولّي جورج بوش الابن رئاسة الولايات المتّحدة عام 2001. وهو المفهوم الذي لا يرعوي عن استخدام كل أشكال الحروب الأمنيّة والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية والإعلاميّة والسيبرانيّة، في تركيبات عجيبة، هدفها حماية المصالح الأميركيّة الكبرى. وهو ما بدأنا نلمس آثاره المُفجعة منذ تشرين 2019.

رابعاً، إن منهجيّة تعدّد السيناريوهات التي اشتهرت باعتمادها الإدارة البراغماتيّة للولايات المتّحدة، تُظهر بوضوح، ومن خلال البيئة المكانيّة الشاملة التي تبنيها في سفارتها الجديدة، بأن الدور الحقيقي لمنظّمات المجتمع المدني التي عملت هذه الإدارة على بنائها منذ عام 2005 (حكومة فؤاد السنيورة)، يتخطّى الحديث الزجلي الحالم لهذه المنظّمات، ويعبّر عن خطورة الدور الذي تقوم به هذه المنظّمات، سواء علمت بذلك أم لم تعلم.

إنّ كل ما تقدّم، يظهر حجم المسؤوليّة إزاء الحرب الجديدة القادمة من بلاد الصقيع. حرب لا تحتمل أي نوع من الحياد، مهما بلغ عمقه الديني، ولا تحتمل إهمال أي نوع من بذل الجهد وإعداد العُدّة والعتاد، سواء على المستوى العسكري والأمني، أو الثقافي والفكري، أو الاقتصادي والمالي، أو العلمي والتقني، أو السياسي والاجتماعي، أو الإعلامي والنفسي، أو الفنّي والإبداعي، أو السيبراني والمجازي، أو أو أو …، مهما بلغ تواضعه. وقبل كل ذلك، توحيد القيادة الحكيمة والمقتدرة والشجاعة التي لا تخاف من هالة أميركا. وهي مهمة تتطلب الوثوق بالقيادة التي لديها الخبرة الكافية والتجربة الحقيقيّة في مواجهة الإدارة الأميركيّة منذ أن حضرت أميركا في المنطقة. قيادة لم ترفع يوماً شعاراتٍ جوفاء ألّهت بها شعوبها لتربح الوقت الكافي لتُنَجِّرَ «خازوق» التسوية، ولم تعان لحظةً واحدة من عُقد النقص الدونيّة التي تُصيب الكسالى والجبناء واليائسين. قيادة كهذه لا يمكن وُجودها أصلاً، إذا لم تكن عداوة النظام الأميركي في صُلبِ اعتقاداتها، وفي عمق منظومتها القيميّة، وفي باطن وظاهر اتجاهاتها وسلوكيّاتها. قيادة كهذه لا يمكنها الانتصار أصلاً في حربٍ وجوديّةٍ كهذه، إذا لم تكن رؤاها الكونيّة والاستراتيجيّة، قد أنتجت مشروعها الحضاري البديل والمستقل، عن كل المشروع الحضاري الذي تمثّله أميركا مُنذُ إعلان اتحادها المشؤوم على جثث أكثر من خمسين مليون قتيل من كل الأعراق… ما عدا الأبيض..الأخبار

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]