هكذا يمكن أن نحوّل النقمة إلى نعمة..

د. موسى الغرير

كلية الاقتصاد-جامعة دمشق

تتخذ الحكومة السورية في مواجهة منع انشار فيروس كورونا المنتشر عالميا مجموعة من الاجراءات الصحية والاقتصادية، وبصرف النظر عن تقييم فعاليتها من الناحية الصحية والوقائية التي يترك للأخصائيين تقديرها، فإنها من الناحية الاقتصادية تعتبر من حيث الظاهر تعطيلاً عن العمل وايقافا للدورة الاقتصادية) حتى وإن كان جزئيا)، ومن سمات هذا التعطيل والتوقف أنه يتم باستخدام سلطة الدولة وبإشرافها على ابقاء الناس في بيوتهم بحجة منع الأذى عن مواطنيها والحد من انتشار الوباء وتوسعه كي لا يغرق المجتمع في مستنقع الوباء وتداعياته على الصحة والحياة بشكل عام، وفي هذه الحالة تضحي الحكومة بجانب من إنتاجها من أجل المحافظة على صحة مواطنيها، ولابأس في ذلك طالما الهدف من التنمية بالأساس هو الإنسان وتحسين مستوى معيشته. إلا أنه وعلى الرغم من سلامة وصحة التوجه من حيث الشكل لكنه من حيث المضمون من غير الممكن أن ينجح التركيز على الانسان وتحقيق تحسن في مستوى معيشته بدون انتاج.

إن التنمية لا يمكن أن تتحقق دون انتاج محلي وما يولده من دورة اقتصادية تعم البلد بأكمله، ولا الوصول إلى استهلاك عقلاني رشيد متوازن ومتناسق دون الانطلاق من إنتاج محلي وفير يستجيب لمتطلبات مراحل عملية إعادة الإنتاج المتمثلة بالإنتاج والتبادل والتوزيع والاستهلاك التي سوف نقوم بتوضيح تداعيات التوقف عن الانتاج عليها من خلال التالي :

أولاً– الإنتاج: لا شك في أن الإنتاج الذي بدا يتعافى نسبيا بعد أكثر من تسع سنوات من الحرب الكونية المفروضة عليه سوف يتأثر بالإعلان عن انتشار فيروس كورونا. فالاقتصاد كما هو معلوم لايزال في مرحلة النقاهة ولم يشف بشكل كامل من نتائج الخراب والتدمير والتعطيل في طاقاته ولا زالت العقوبات والحصار وقانون سيزر يطاردانه، ويأتي فوق كل ذلك الهلع والخوف من انتشار الوباء وتوسعه ليضيف إليه تحديات محملة بأعباء ومتطلبات جديدة تفرضها الحاجة إلى الحجر الصحي وتأمين السلع الاستهلاكية للناس موضوع الحجر، وذلك في ظل التوقف عن العمل وتعطيل طاقات انتاجية .من الواضح أن هذه معادلة صعبة من غير الممكن الاقرار بصحتها والعمل بمقتضاها دون حل وتفكيك لمكونات أطرافها لجهة إعادة العامل إلى العمل وتوفير الإنتاج القادر على توفير الغذاء وتمويل ما يلزم لمنع انتشار الوباء وتأمين الدواء اللازم للعلاج، حتى لا يكون السبب بموت من لا يموتون بالفيروس هو موتهم بسبب نقص الغذاء. وكي لا نقع في المحظور، فإن المطلوب جهوداً استثنائية ومبادرات خلاقة وإدارة رشيدة للموارد والطاقات تقوم بتشغيلها وتوجيهها إلى القطاعات والنشاطات الأكثر أهمية في الظروف التي نعيش إلى جانب العناية الجادة بمنع انتشار الفيروس ومتابعة التعاون مع العالم لمعالجته.

وضمن هذا الإطار قد يكون القطاع الزراعي هو القطاع المهم الذي يجب أن توجه إليه الجهود والامكانات للاستفادة من الطاقات الكامنة فيه وتشغيله بأعلى إنتاجية ممكنة. اذ أن رأس المال يتجسد في الأرض الزراعية الذي هو عامل الإنتاج الرئيس الذي يعاني الاقتصاد من صعوبة في تأمينه. وبالزراعة تتاح إمكانية العمل والتشغيل بما يحقق متطلبات الوقاية من الفيرس وقلة انتشاره حيث لا يحتاج تشغيل العمال في الزراعة إلى ازدحام الناس تحت سقف واحد، ويكون فيها أيضا تنوع كبير في النشاطات الاقتصادية (نباتي، غذائي، حيواني، عشبي، دوائي). يضاف إلى ذلك أن معظم العاملين في هذا القطاع يعملون لحسابهم الخاص من دون راتب من الدولة، وهذا ما يوفر لهم دخلاً من إنتاجهم بدلاً من المعونات التي قد تفكر الدولة بتقديمها للمحتاجين والذين ليس لديهم عمل.

أما وقد يكون قسماً من الأراضي الزراعية لم يزرع بعد أو مزروعة وتعطي إنتاجية متدنية، وحتى جزء منها لم يستخدم فيها المبيدات والأسمدة الكيميائية. فان كل ذلك يعطيها ميزات تفضيلية جاذبة للاستثمار وللطلب على إنتاجه للأسواق الخارجية التي سوف تعاني بحسب تقديرات المنظمة العالمية للأغذية والزراعة (الفاو) من نقص في إمدادات الغذاء، ومن زيادة في عدد الأفراد الذين يعانون من نقص الغذاء على الصعيد العالمي.

وفي هذه الحالة يمكن القول إن إمكانية تحويل المعانة التي يعيشها قطاع الزراعة والاقتصاد والمجتمع بسبب فيروس كورونا وغيره إلى فرصة تنموية تكمن في الاعتماد على الزراعة ذاتها لجهة الإمكانية المتاحة فيها لزيادة الإنتاجية في وحدة المساحة، ولدور السلع التي ينتجها هذا القطاع في توفير الغذاء للناس المحجورين ولإمكانية فسح المجال أمام تصدير الفائض من إنتاجه للحصول على القطع اللازم، إلى جانب دوره في توفير مستلزمات الإنتاج اللازمة لتشغيل القطاعات الأخرى وتحريك الدورة الانتاجية .

ثانياً -التبادل: إذا كان ما نعنيه بالتبادل هو مقايضة ما يتم إنتاجه في قطاع ما مع ما يتم إنتاجه في قطاعات أخرى، وأن الوسيلة لإتمام هذه العملية تتوقف على النقد، فإن هذا يتطلب حتى تتم هذه العملية الهامة في الدورة الإنتاجية تحقيق الشرطين التاليين: الإنتاج أولاً والنقد ثانياً.

وكما يمكن التعويض عن النقص في الإنتاج بالاستيراد، فإن الأخير يحتاج إلى العملات الصعبة التي تتأتى من فائض الإنتاج المخصص للتصدير (الوجه المقابل للاستيراد). في هذا السياق يتيح الاطلاع على واقع القطاع الزراعي الوصول إلى نتيجة مفادها أن القطاع الأكثر قدرة على تحقيق هذين الشرطين، وبإنتاج وفير ينشط عملية التبادل بين القطاعات ويؤمن بعضاُ من الحاجات غير الغذائية للناس موضوع الحجر الصحي وفائضا للتصدير يوفر التمويل اللازم للأدوية والعناية الصحية للمصابين بالفيروس وتحسين أوضاعهم الصحية بالإضافة الى دوره في تامين مستلزمات الانتاج للقطاعات الاخرى هو القطاع الزراعي.

ثالثاً– التوزيع: تتجلى هذه العملية بالعوائد التي توزع على عوامل الإنتاج تبعا لإسهامها بالعملية الإنتاجية، ويعبر عنها بالقوة الشرائية التي يمكن من خلالها لأصحاب العوائد شراء السلع والخدمات بالدخول التي يحصلون عليها. في هذه الحالة فإن من يعمل يحصل على عائد ومن لا يعمل بسبب الحجر الصحي (كما هي الحالة الآن) وغير موظف لا يحصل على دخل، وبالتالي لن تكن لديه القدرة على تأمين الحاجات الضرورية لأفراد أسرته التي تتعرض في غياب الإعانات إلى العوز والحرمان وسوء التغذية قد تودي فيها بحالات خاصة إلى الموت من الفقر بدلاً من الموت بسبب الفيروس.

ويضاف إلى ذلك الأثر السلبي الذي يتركه تعطيل عملية التوزيع ليس على الاستهلاك وحسب وإنما على عملية الإنتاج أيضاً، إذ أنه من المعروف أن التراجع في الطلب لا يحفز على الإنتاج ويخفض المعروض، ويتسبب بارتفاع الأسعار، ،ورغم ذلك يزداد الطلب على تخزين السلع خوفا من فقدانها ويزداد الاحتكار ، وكل ذلك يؤدي إلى تفاقم المشكلة الاقتصادية، وربما تكون الآثار الناجمة عنها أكثر تأثيراً من تأثير الفيروس المسبب لبقاء الناس في منازلهم.

وهكذا إذا كانت المحافظة على حياة الناس مطلباً انسانياً فإن تحقيقه يتوقف علىى التنمية وتأمين الاحتياجات الضرورية للحفاظ على هذه الحياة الذي يشكل الدخل من العمل المصدر الأساسي للحصول عليها.

رابعاً – الاستهلاك: يعد الاستهلاك المرحلة النهائية من مراحل إعادة الإنتاج، ويعبر عنه بالطلب القادر على الدفع، ويرتبط مع الإنتاج بعلاقة مباشرة، بمعنى أن لا إنتاج دون استهلاك والعكس صحيح، وهكذا فإن قوة هذه العلاقة تتوقف على وجود الإنتاج أولاً وعلى القدرة على استجرار السلع وايصالها إلى المستهلك ثانياً.

وغني عن البيان القول أن الهلع والخوف والحملات الإعلامية المختلفة عن الفيروس، والاجراءات التي اتخذتها الحكومة والمتمثلة ببقاء الناس في منازلهم للحد من انتشاره قد أدت إلى احداث خلل في هذه العلاقة يتم الافصاح عنه بتوقف من بقي في المنزل عن العمل والإنتاج في الوقت الذي ازداد حجم المستجر من السلع بغرض الاستهلاك (السلع التي تستهلك يومياً مضافا إليها ما هو مخصص للتخزين)،وهذا ما تسبب في التراجع بالطلب على السلع الإنتاجية وتوجيه كامل ما هو متاح من دخل إلى السلع الاستهلاكية التي قد يتلف ويهدر نسبةً لابأس منها بسبب عدم صلاحية بعضا منها للتخزين.

وفي مثل هذه الحالة يكون التأثير السلبي في الاستهلاك من جانبين: الأول زيادة الطلب على السلع، وارتفاع أسعارها بمعدلات زادت عن 50% خلال شهر واحد، والثاني زيادة الهدر المتوقع ولاسيما في السلع غير القابلة للتخزين لفترات طويلة وكل ذلك يؤثر سلباً على الادخار والاستثمار الذي ستظهر نتائجه بشكل أوضح على المدى البعيد.

خامساً– الخاتمة: معلوم أن المشكلة التي نواجها لاتحل بالناتج بمفرده، وإنما بمراعاة الجوانب الانسانية والاجتماعية والصحية، وبالتعاون الدولي مع المنظمات الدولية ذات العلاقة، وأن المواجهة يجب أن تبدأ بالتصدي لانتشار الوباء ومعالجة تداعياته وبالعمل على تحفيز النمو الاقتصادي، وإذا كانت المعالجة الرأسمالية للوباء قد أدت إلى تآكل الهياكل الرأسمالية من الداخل، ورسخت قناعة بعدم جدوى طرق معالجتها بمفهوم المصلحة الفردية والأنانية، فإن هذا يستدعي وجود قواعد جديدة لإدارة أزمات العالم، وهذا ما يكثر الحديث عنه لجهة توقع تغيير التحالفات الدولية وشكل النظام العالمي الجديد والفلسفة التي تقوم عليها الرأسمالية لناحية التقوقع القومي والانغلاق على الذات، ومن ثم التبدل في سلوك المستهلك، وفي النظرة لمسألة الاعتماد على الذات في التنمية ومعالجة الأزمات التي بدأت تطرح نفسها وبقوة بعد:

– غياب التعاون مع الدول التي بدأت تعاني من انتشار الفيروس قيل غيرها (ايطاليا واسبانيا) ووقوف الدول الحليفة ولاسيما دول الاتحاد الاوربي موقف المتفرج والمكتفي بإحصاء عدد الاصابات والمتوفين في كل يوم.

-فشل المؤسسات الدولية عن تقديم المساعدات اللازمة للتصدي لهذا الوباء العالمي (عدم الاستجابة لطلب ايران بمنحها قرض لهذه الغاية مثال على ذلك) وعجز مجلس الأمن عن عقد جلسة طارئة لمناقشة ومواجهة هذا التحدي العالمي.

وكنتيجة لكل ذلك فإن ما بعد كورونا لن يكون كما كان قبلها، وكما حصل وسيحصل في الاقتصاد العالمي من تبدلات سوف تتأثر فيها مختلف الدول ومنها سورية وخاصة لجهة زيادة القناعة بأهمية دور الدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية بشكل عام وفي وقت الأزمات بشكل أكثر تحديداً، وقد جاءت أزمة كورونا والطرق التي اتبعت في معالجتها لتؤكد على تلك الأهمية ولتعيد الاعتبار إلى مفهوم الاعتماد على الذات في التنمية التي أسهمت العولمة في التقليل من الحديث عنها، ولعل فيما قدمنا عن أهمية ودور القطاع الزراعي بتنشيط حركة الدورة الاقتصادية في سورية يمكن أن يشكل مساهمة في إثارة النقاش حول هذا الموضوع الهام، والله ولي التوفيق.

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]