نحن..لا نريد أنترنيت

الخبير السوري:

قرارات حافة الطاولة قد تنقذنا من حافة الهاوية….

المهندس: لؤي عيد

من حيث لا يدري ..يوشك وزير الاتصالات و التقانة أن يسدي لبلده خدمة جليلة سيحمد عليها , بوضعه قيوداً على استخدام النت في سوريا ورفع أسعارها . وحبذا لو يكمل جميله هذا ويلغي النت تماماً …وليعذرنا من سيلفحهم الطرح، فلعل لـ”النفخ في اللبن” مسوغاته المقنعة أحياناً.

  لقد غيرت ثورة المعلومات وجه العالم وانتقلت بالبشرية الى مستويات متقدمة جداً في سلم التطور والحضارة , حتى أصبحت سمة العصر وأداة أي إنتاج علمي أو اقتصادي أو فكري . . إنْ كان على صعيد المجتمعات والدول والشركات , أو على صعيد الأفراد في إنجاز جلِّ أعمالهم ونشاطاتهم مهما علا أوقل شأنها .

 وما كان حلماً ” فانتازيّاً ” منذ سنوات يصبح اليوم واقعاً ملموساً بفضل التطور التقني , وفي كل يوم تصلنا أخبار اختراعات وإبداعات وإنجازات  تتبارى بها شركات متخصصة من أربع جهات الأرض بغية الفوز في سباق التطور, ورفع اسم ومكانة أوطانها عالياً , وخدمة للانسانية على كل حال .

  ثورة المعلومات والتقانة والإنترنت هذه تُرجمت لدينا بشكل مختلف , ودون أن نحفل بالسباق آنف الذكر . لقد تجلت بانتشار محموم وسرطاني لوسائل التواصل الاجتماعي وما أدراك ما هذه وسائل التواصل الاجتماعي .

المفارقة المؤلمة أن اسمها معاكس تماماً لمضمونها . أنها في الحقيقة وسائل التباعد الاجتماعي , وصولاً إلى ما يشبه القطيعة بين أفراد الأسرة الواحدة .

  فالأم تركت أطفالها وانشغلت بالمباركات والتهاني “الإلكترونية” والدردشات والإعجابات , وعرض أحدث صحن فتوش أو قالب حلوى أبدعته يداها . وبين الحين والحين تتحفنا بصورة “سيلفي” فردية أو جماعية مع لفيف من الصديقات دون أن تنسى قبلة البطة الشهيرة . أو تطالعنا بصورة للملاك ابنها بمناسبة نجاحه أو عيد ميلاده أو ختانه. . . أو صورة ثنائية دافئة مع زوجها “تاج راسها” بمناسبة عيد زواجهم ( ولم أجد حتى الآن تفسيراً لإقحامنا في هذه المناسبة بالذات ) . ثم تتفرغ بعدها ساعات للرد على التعليقات والتعليكات والمباركات . وإذا جمح خيالها لاستثمار آخر للنت فلمتابعة آخر تقليعات الموضة أو تطبيقات فن الطبخ.

  أما الرجال فشأنهم مختلف . لقد نسوا أمر الجلوس إلى أبنائهم والاهتمام بشؤونهم وتربيتهم وتغذيتهم بخلاصة ما تعلموه من دروس الحياة , وبدلاً من ذلك انصرفوا الى صفحات النت لنقد وتفنيد وتقريظ كل ما يدور في العالم من سياسة واقتصاد وفي الاستراتيجيا والدين والأدب . . وطرح نظرياتهم وآرائهم السمجة , والجميع يفهم في كل شيء , فلا كبير هنا على صفحات التواصل . وكثيراً ما تدور مواجهات ونزالات دونكيشوتية تكون أسلحتها “من تحت الزنار” , ودوماً ليس هناك خاسر.

أما المأساة الحقيقية فهي عند الشباب بناة المستقبل , وأي مستقبل في أيدي هؤلاء ؟؟

من المفترض أن الشاب في هذا السن يبحث عن مواهبه وملكاته ويكوِّن ذاته التي يبتغيها , يطور ثقافته وإمكاناته . يبادر للقراءة والتعلُّم خارج مناهجه المدرسية ليحقق تميزاً . أو يسعى إلى تعلم مهنة تناسب ميوله ليصل إلى احترافها وممارستها . وفي النتيجة , وعلى مستوى الوطن يتحقق البناء الأفقي السليم لمجتمع ناجح خلّاق .

  لكن الواقع لا يمت إلى هذا كله بأية صلة . المعايير والمفاهيم الآن مختلفة لدى شبابنا , فالموبايل الرفيق الذي لا يستغني عنه أي شاب , هو السمير في سهراته دون أهله المشغولون عنه , والأنيس في وحدته أو في المقهى مع الأركيلة , شريكه في الدرس والنوم والأكل , حتى في قاعة الدراسة , أثناء حصص الدرس , لا مبرر لتوقف الدردشات . في النهاية , لا وقت لأي نشاط آخر . لقد ابتلع الموبايل كل الوقت . لا وقت للقراءة أو للحديث أو للتعلُّم . وإذا كان الشاب في زمن مضى يتفاخر بأنه قرأ كتاب ما في الأدب أو العلوم أو الفلك أو من أمهات الكتب , فهو الآن يتباهى بتحطيم رقم قياسي في ال”كاندي كراش” أو “المزرعة السعيدة” أو في عدد اللايكات على منشور ظريف .

   كارثة . .

إننا نخسر وندمر مستقبلنا , ونبني على الرمال وفي الطين . أي مستقبل ينتظرنا ؟؟

  لقد غيَّر “النت” مفاهيمنا وثقافتنا . وأصبحنا طبولاً خاوية وبلا هوية . وصل التخريب إلى القيم والأخلاق والمفاهيم التي تُبنى لبنة لبنة وتحتاج إلى حوار وتغذية عقول وقلوب . أصبح مصدر غذاء عقول أبنائنا هو النت فقط ولا شيء غيرها , ثقافة لقيطة لا أب معروف لها , غربية شرقية. . تستحوذ صفحات البورنو على جلِّها .

  هذا ما تلقفناه على العموم من الثورة التقنية , ولا نغفل حالات أخرى صحّية من الاستثمار الحميد لها , لكن ذلك يهمل في مفاعيله أمام ما ذكر آنفاً .

  السيد الوزير المظفَّر , كنا نرغب أن يكون للحديث لون ومعنى آخر . لكن في ظل غياب أية دراسة أو سياسة من قبل وزارات الدولة في الحكومات المتوالية لأحتواء وتوجيه جيل الشباب والاستفادة من طاقاتهم , بدءاً من وزارة التربية وليس انتهاءً بوزارة التخطيط (قبل تبخّرها) أو التعليم أوالصناعة . . . بما أن الحال كذلك , نشدُّ على يديك ونطلب المزيد . ولنا في ذلك مآرب أخرى غير رفد خزينة الدولة و “حفظ المال العام”، نحن نريد استعادة أبنائنا ونستعيد بهم وطناً نكاد نضيّعه.

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]