جدلية صنع في سورية تنحدر نحو المضمار الزراعي وما “أُنتج في سورية”… تساؤلات غير بريئة وشكوك بجهود خفية لسحب البساط من تحت العملية الإنتاجية..!.

ما تزخر به أسواقنا من منتجات زراعية أجنبية بغض النظر إن كانت مستوردة بشكل نظامي أو مهربة، يشي بوجود خلل ما، ذكرنا بما أفضاه لنا ذات مرة وزير سابق عندما التقى بعثتي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي إذ قال لهم حينها: “أنتم تدهورون الحكومة السورية وتغشوها بتوصياتكم بإعطاء الدعم النقدي للمواطنين أي الدعم من أجل الاستهلاك وليس من أجل الإنتاج”، وعندها وزعت الحكومة معونة مالية لشراء المازوت، بينما كان الأجدى لها أن تدعم الإنتاج وليس الاستهلاك، عبر تمويل الفلاحين – على سبيل المثال – بقروض ميسرة وشراء منتجاتهم بأسعار مدعومة، وبذلك نضمن ألا يغادر الفلاح أرضه وبنفس الوقت نزيد من إنتاجنا الزراعي.
تساؤلات غير بريئة
من هذه المنتجات الأجنبية والتي لها مثيل محلي، تفاح إيطالي بسعر 2600 ليرة سورية للكغ، والمفارقة أنه لا ينحصر بيعه في مولات وصالات الـVIP وحسب، بل في المناطق الشعبية أيضاً..! ما يوحي أولاً بأن ثمة طابور خامس بدأ يتسلل إلى ثنايا اقتصادنا وإضفاء الصبغة الاستهلاكية عليه على حساب الإنتاجية، وثانياً وجود قوة شرائية مشكوك في أمرها في ظل تضخم قض مواجع معظم الشرائح، وثالثا كيفية دخول هذا النوع من المنتجات إلى أسواقنا، فإن كان استيراداً نظامياً فتلك مصيبة خاصة في ظل الحاجة للقطع الأجنبي لتمويل المستوردات الأساسية، وإن كان تهريباً فالمصيبة أكبر..!.
بين رأيين
تتعالى بين الفينة والأخرى -وفي ظل تخبط أسواقنا- أصوات مطالبة بالتخلي عن اقتصاد السوق الاجتماعي –ولو مبدئياً – ريثما يعاد ترتيب أوراق السوق المحلية، لاسيما من جهة ارتفاع الأسعار التي باتت تتطلب قراراً من نوع خاص – وربما استثنائي – باتجاه العودة إلى التسعير الإداري. وفي المقلب الآخر هناك فريق اقتصادي لا يؤيد فكرة الرجوع عن نهج اقتصاد السوق مطلقاً، معتبرا أن الاقتصاد الموجه بات تاريخًا ولا يجوز العودة إليه لأنه بالأصل أثبت فشله.
ما بين الرأيين تبرز الحقيقة المتمثلة بسوء التطبيق حيث أن الحكومة لم تعط هذه الفكرة برنامجا واضحا، وإلى الآن لا أحد يفهم ما هو المطلوب من اقتصاد السوق الاجتماعي، وما عرفناه بعد التطبيق العملي له يتلخص فقط بتخلي الدولة عن الدعم.
لم تدرك
يبدو أن مفاصلنا الحكومية لم تدرك بعد عملية الإنتاج ولا حتى إدارة الاقتصاد عبر الإنتاج أولا وليس الاستهلاك، كما يقول اليابانيون: (لا أطعم المواطن سمك بل أعلمه كيف يصطاد)، ففي ظروف كهذه التي نمر بها لا يوجد دولة في العالم تترك اقتصاد السوق دون أن تتدخل، وتجلى ذلك في أزمة عام 2008 حيث كان هناك تدخل من قبل كل دول العالم وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، لدرجة أنها اُتهمت بالتحول إلى الاشتراكية عندما اشترت أسهم وتدخلت لإنقاذ كبريات الشركات لديها من الإفلاس حتى لا ينهار المجتمع.
الحل الأمثل
ربما من الصعوبة العودة إلى الاقتصاد الموجه لأن الوضع لم يعد يسمح بذلك، فالكل يتجه نحو التحرير ولا يجوز أن نرجع إلى التقييد، وأية عملية تقييد تحتاج إلى تكاليف وفق ما يؤكده المختصون، ليبقى الخيار أمام الحكومة العمل على تفعيل الإنتاج، وبالدرجة الأولى الزراعي منه، وبالدرجة الثانية الصناعي المرتبط بالأول، وذلك من خلال إيجاد عناقيد صناعية تكمل بعضها البعض للوصول إلى منتج نهائي ذو قيم مضافة عالية، تقي منتجاتنا الزراعية من تصديرها خاماً وبأسعار زهيدة نسبياً، وتنعكس بالمحصلة على توسيع دائرة الإنتاج وزياد دخل مزارعنا بشكل خاص، وانتعاش اقتصادنا الوطني بشكل عام، ولا يخفى على أحد مدى غنى قطاعنا الزراعي بوارداته النباتية والحيوانية، ولعل وزارة الزراعة تعي هذا الأمر جيداً، إلا أن خطواتها بهذا الاتجاه لا تزال متواضعة، كما أنها – أي الوزارة – بحاجة إلى تضافر عدة جهات مثل (وزارة الصناعة – هيئة الاستثمار وغيرها) لتصويب البوصلة نحو التصنيع الزراعي.
تقصير
بعض مصادر الوزارة لم تنف وجود تقصير واضح في هذا النوع من الاستثمار، لاعتبارات تتعلق بشكل عام برأس المال الذي يخشى الخوض في مجال الاستثمار الزراعي المرهون في أغلب الأحيان بالظروف المناخية والبيئية من جهة، وطيلة استرداد رأس المال من جهة أخرى، ما يجعل مهمة الحكومة بتوجيه رأس المال نحو هذا القطاع صعبة جداً ما لم تقدم المزيد من المغريات، علما أن الزراعة في سورية مدعومة حتى قبل صدور قانون الاستثمار رقم 10 الذي يعفي من الضرائب والرسوم وبشكل خاص الرسوم الجمركية إلى حد معين، بينما الإنتاج الزراعي معفى بجميع الأحوال وبشكل دائم.
مصادر أخرى في وزارة الزراعة اعتبرت في حديثها لـ”البعث” أن الحل الأمثل لتوجيه رأس المال نحو هذا القطاع يكمن بأن يقوم المستثمر بالعمل في المجال الزراعي بشكل متكامل، بمعنى أن يزرع ويصنع في الوقت ذاته، لأن إدخال الشق الصناعي في القطاع الزراعي يقلل من فترة دوران رأس المال، وعلى اعتبار أن الآلات والتجهيزات معفاة من الجمارك سيكون دخله أكبر وتزيد نسبة الحاجة لليد العاملة.
دروس وعبر
ما سبق يستدعي ضرورة إعطاء تصنيعنا الزراعي زخماً أكبر وتشجيع المستثمرين على الخوض في هذا المضمار الإستراتيجي والحيوي، فمن غير المقبول أن تزخر أسواقنا بمنتجات صناعية زراعية مستوردة، ولو أنه تم العمل على إستراتيجية وطنية خاصة بالتصنيع الزراعي منذ سنوات خلت، لما حلقت أسعار السلع الغذائية المصنعّة إلى المستويات التي نشهدها اليوم من جهة، وبنفس الوقت حققنا وفوراً من القطع المخصص لاستيراد مثل هذه المنتجات..!.
يبقى الرهان الآن على الاستفادة من دروس الماضي وفوات الفرص الكفيلة بإعطاء قيم مضافة لمنتجاتنا الزراعية، والتي لا تزال أكبر خاصرة نازفة في قوام اقتصادنا الوطني، وهذا يحتم على أصحاب القرار وضع آليات لإستراتيجية وطنية تعتمد بالدرجة الأولى على التنسيق بين خطط الإنتاج والتصنيع، حتى لا يذهب فائض الإنتاج إلى مكبات القمامة, إضافة إلى القيام بدراسة تسويقية لمعرفة احتياجات الأسواق والتأسيس لتصنيع الباقي, فتصنيعنا الزراعي للأسف لا يزال ذو أداء متواضع يقتصر على الكونسروة والألبان والأجبان, كما أن معامل القطاع العام التي تنتج هذه السلع مضى عليها عقود من الزمن, واهتلكت آلاتها ما أدى إلى تراجع جودة إنتاجها, لذلك لم يبق إلا الإنتاج الريفي البسيط وهذا يحتضن فرصة جديدة لتطوير القطاع عبر ضخ القروض لتنميته ودعمه فنياً.
الخبير السوري – حسن النابلسي – البعث

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]