التوريق النقدي و100 دولار ياصديقي…

 

أ.د: حيان أحمد سلمان

 

اتصل بي أحد الأصدقاء وهو أستاذ في جامعة دمشق وقال: أريد أن أعرف رأيك في الحادثة التالية التي تروى عن (كارل ماركس) وجوهرها أن سكان إحدى القرى الصغيرة والفقيرة كانوا مدينين جميعاً ويعيشون على الاقتراض, وفجأة يأتي رجل سائح من خارج القرية إلى القرية ويدخل أحد فنادقها البسيطة وأعطى /100/ دولار لصاحب الفندق, وصعد إلى الطابق العلوي ليتفقد الغرف لاختيار غرفة مناسبة له, في هذه الأثناء استغل مالك الفندق الفرصة وأخذ المئة دولار وذهب مسرعاً للجزار ليسدد له دينه, أخذها الجزار وذهب إلى تاجر الماشية ليسدد له دينه, ومن ثم ذهب تاجر الأقمشة إلى تاجر العلف ليسدد له بقية دينه, وذهب تاجر العلف إلى صاحب الشاحنة التي تنقل له العلف وهو من خارج المدينة ويسكن في الفندق نفسه, وفجأة قام صاحب الشاحنة وسدد لمالك الفندق دينه البالغ /100/ دولار, ثم قام مالك الفندق بأخذ الـ /100/ دولار ووضعها على الطاولة, وفي هذه اللحظة عاد السائح الثري من الطابق الثاني وأخذ الـ /100/ دولار وغادر القرية بعد أن سدد سكان القرية ديونهم ولم يكسبوا شيئاً, وهكذا تدار اقتصاديات العالم ؟!, ويسألني الدكتور المهندس، هل تدار اقتصاديات العالم فعلا بهذه الطريقة؟!, قلت له ياصديقي مع احترامي الكامل والكبير للفيلسوف العبقري وعالم الاجتماع والاقتصادي الثوري (كارل هان ريك ماركس), وقد عايش مرحلة التعامل بالدولار الذي بدأ في عام /1785/, ولكن قبل التعامل بالدولار كان التعامل بالمقايضة وبنظام المعدنين أي(الذهب والفضة) وقد كتب فيلسوفنا الرائع الكثير عن الأنظمة النقدية قبل الدولار, وهنا تجدر الإشارة إلى أن الدولار لم يكن مسيطراً في تلك الفترة بل كان (الجنيه الإسترليني) وهو عملة (المملكة المتحدة العظمى), واستمر التعامل بالجنيه حتى اتفاقية (بريتون وودز عام 1944) في أمريكا حيث بدأت السيطرة العملية للدولار الأمريكي على الاقتصاديات العالمية, وبموجب هذه الاتفاقية تم التعامل العالمي بالدولار وبموجب تغطيته بالذهب ظهر(الدولار الذهبي) وبموجبه تم التزام البنوك الأمريكية باستبدال الدولار بالذهب المقابل له وفقاً لمعادلة الدولار الذهبي وهي (كل أونصة ذهب = 33 غراماً تعادل 35 دولاراً) وتصور يا صديقي كم سعر أونصة أو غرام الذهب وكم هو الفارق بين سعر الدولار الذهبي, وهنا يكمن سر استغلال أمريكا لكل دول العالم من خلال عملتها؟!, ولكن مع زيادة النفقات الأمريكية ولعدة أسباب, ومنها مثلا تحول أمريكا إلى مجتمع استهلاكي, وزيادة النفقات العسكرية الأمريكية وخاصة لتغطية (حرب فييتنام) واضطرارها لزيادة طباعة النقود من دون توفر احتياطي ذهبي أو إنتاجي,…الخ, هنا اضطر الرئيس الأمريكي(ريتشارد نيكسون) لإصدار قراره بتاريخ 15/8/1971 بإلغاء الدولار الذهبي ومن ثم تم تعويم الدولار, وأصبحت المطابع الأمريكية تطبع الدولارات من دون رقيب أو حسيب, ونتج عن ذلك أن أمريكا حالياً هي أكبر دولة مدينة في العالم, بدليل أن دينها لعام 2016 أكثر من /112%/ من ناتجها الاجمالي, أي إنها بالفقه الاقتصادي دولة مفلسة لكن دولارها يحميها مؤقتاً, وتعرف أمريكا المخاطر التي ستترتب على ذلك!, ووجدت الحل وضالتها المنشودة في اعتماد آلية للخروج من أزمتها وهي(التوريق النقدي) أي تحويل كل القيم الاقتصادية إلى أوراق نقدية لا قيمة لها بذاتها, ولكن بشرط أن يكون سيد عملية التوريق هو الدولار الأمريكي الذي يقيّم به كل العملات وحتى الذهب والبترول وغيرهما, وتحاول أمريكا أن تلعب دور السائح الغني في القصة أعلاه, لكن الأمور الاقتصادية تعقدت وتوسعت وتنوعت, ولا يمكن حلها بطريقة أهل القرية البسيطة والفقيرة, ومن هنا نتفهم سعي الكثير من دول العالم والتكتلات الاقتصادية لإيجاد عملة أخرى بديلة عن الدولار مثل (مجموعة البريكس وغيرها), ومن هنا نتفهم أيضا التهديد الأمريكي لكل من يدعو لتبديل التعامل بالدولار الذي لم يعد محل ثقة وهو مطروح بكميات كبيرة ولكن السيطرة الأمريكية هي الضامن الوحيد لفرضه بالقوة على الساحة العالمية وقبوله من أغلب دول العالم.

إنها يا دكتور .. لعبة النقود والرابح الوحيد هو أمريكا, لكنني أتلمس معالم تغيير قريب في النظام النقدي الدولي بسبب تراجع القوة الأمريكية وانتهاء عصر القطبية الأحادية وصعود قوى اقتصادية عالمية جديدة.

عن تشرين

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]