إرهاب الرقم الأسود

 

ناظم عيد

مريب ذلك الصمت الحكومي عن فصول تبدو خارجة عن المألوف، تجري على “مسرح الرقم الإحصائي” الذي بات منتعشاً ونشطاً بشكلٍ لافت، بل وشغوف بـإطلاق معطياته “قصفاً” وسط الخواء وأنقاض الحرب، فكان رجع صداها في المضمار الشعبي مدوياً، ومتماهياً إلى حدّ كبير مع حالات الهلع التي كانت غاية من دفع بقطعان الإرهاب صوبنا، وقد لا نغالي إن زعمنا أن حالة تشبه الإرهاب الإحصائي تعترينا اليوم، أخطر ما فيها أن من منتجي أرقامها السوداء، هم خبراء ومراكز أبحاث وطنية ليسوا خارج البلاد، بل هنا في الداخل يتلقى نتاجهم من يتلقاه على محمل الجدية والثقة المطلقة، بكل ما يحمله من صدمات موجعة، فيكون وجعاً على وجع؟!.

إلا أن السؤال الملحّ هنا، والذي يفرض نفسه بقسوة في غمار مثل هذه المعمعة الجديدة، والارتجال بالغ الجرأة في الإنتاج العشوائي للمعطيات، هو ما نختصره بأربع كلمات: “أين المكتب المركزي للإحصاء”؟.

فما نعلمه أن لدينا مؤسسة حكومية كبرى من نوعها، تعمل تحت هذا الاسم العريق، ذات هيكلية متكاملة، وموازنة مالية ونفقات، وكوادر وانتشار أفقي بمديريات فرعية على عدد المحافظات السورية، هي الأقدر – قطعاً – على إنتاج الرقم الإحصائي، فلماذا أخلت الميدان، وإلى متى ستمضي في حالة الشرود أو الغياب عن وعي ما يجري؟.. ولماذا لا توقظ حكومتنا هذا المكتب الغارق في نوم عميق، ولم تكن جلبة الأرقام التي يصرخها أصحابها صراخاً كافية لإيقاظه؟.

ربما تدرك الحكومة بأن الأرقام التي “يرشقها” بها بعض الهواة أو حتى المحترفين، ليست دقيقة لاعتبارات تتعلّق بالآليات القاصرة والأدوات غير الكافية لإنتاج الرقم الدقيق في ظروف الأوراق المختلطة والقرائن المتداخلة، فلماذا لم نسمع عن موقف تأكيد أو نفي، بما أن مادة الرقم أو البحث المزعوم تتعلّق بقضايا مصيرية بالنسبة للمواطن، وأن من شأن بعض ما جرى ضخّه في التداول أن يحدث ضجيجاً وتشويشاً على عمل الحكومة وعلاقتها مع أعمالها ومع الأوساط الشعبية؟.

أما الاحتمال الأكبر والوارد بقوّة لدرجة اليقين، فهم أن الأرقام العشوائية تؤثّر بعمق على القرار الحكومي، لأن المتلقي هو مواطن، وثمة ردة فعل أكيدة – من أي نوع – ستتولّد لديه، وتضطر الحكومة لـ”الترميم” وبردات فعل أيضاً، حتى لو اقتصرت الاستجابة على تعديل سريع في قوام جدول أعمال الجلسة الأسبوعية للحظ شأن ما عام ظهّرته دراسة أو مسح إحصائي غير رسمي.

لا نعتقد أن باحثاً أو جهة قادرة على الخروج بأرقام تقريبية عن المعدلات الجديدة للفقر في سورية جراء الحرب، أكثر من المكتب المركزي للإحصاء، ولا عن احتياجات الإنفاق الشهري للأسرة السورية، ولا عن أوضاع الأطفال.. والمرأة.. والقوى العاملة.. والبطالة، كل هذه القضايا بحاجة إلى جهة رسمية وطنية موثوقة تتبنّاها، فالمهم هنا الصدى على المستوى الداخلي وليس الخارجي، ورسائل الداخل الموجّهة لشعب صمد وقاوم، أهم بكثير من الرسائل المعدّة للخارج – إن وجدت – لأن من هم في الخارج لا يكترثون لأرقام ويلاتنا ومعاناتنا إلا ابتهاجاً وتهليلاً.

نعتقد أن مواطننا اليوم أعلم بتفاصيل يومياته أكثر من أي مركز أبحاث في هذا العالم، وهو بحاجة إلى من يرفع من معنوياته الباهتة، وليس شخص أو جهة غاوية شهرة تخبره – بلغة الرقم – أن أياماً أكثر شظفاً وقحطاً بانتظاره، وأن حالة انهيار تجتاح اقتصاد بلده، وبالتالي تعميم القناعة بجدوى الخلاص الفردي، وهي قناعة مدمِّرة في مثل ظروف المعاناة والمواجهة الصعبة كالتي نعيشها في سنتنا السابعة مع الحرب.

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]