مراقبو الدخل يُبادلون المكلفين (رقصة التانغو) …. التهرّب الضريبي”فيلم مكسيكي طويل” بطولة مكلّف وإخراج موظف باحث عن “صيدٍ دسم”!!

خاص – الخبير السوري:
صلاحياتهم أكثر من أن تُحصى، وعلى مقاس جيوبهم ومزاجهم (الرمادي) تُفصّل، لا حسب حاجة الخزينة العامة لموارد مستحقة. يعملون في الظل ويؤثرون البقاء، ليس لأن الظل أستر من النور، بل لأنهم نتاج خلطة “إجراءات ومحسوبيات” هُلامية، تحيل الصالح طالحاً والطالح صالحاً. حتى الأحلام- في عُرف هؤلاء- تستوجب رسوماً وضرائب، وإن لم يعجب ضحاياه من المكلفين، “فليبلطوا البحر، أو يشربوا من مياهه”.
إنهم مراقبو الدخل أو (جامعو الأموال)، أصحاب القرار والأسعار معاً، الذين إن شاؤوا صنفوا محلاً صغيراً في مدخل بناية، على أنه شركة تجارية تصدّر منتجاتها إلى “بلاد الواق واق”، وإن خرجوا راضين مرضيين من مستودعات شاسعة، صنفوها على أنها “كشك” متهالك، لا يكاد يبيع في اليوم علبة (مسكة) أو (كازوزة)، ما يحرم الخزينة الملايين مقابل تنفعهم ” الجشع” هذا.
مراقب الدخل المؤتمن على المال العام، أصبح على المكشوف هو الحكم والخصم فأين المفر؟! فباسمه تستوفى سوق بأكملها لمصلحة العام، وباسمه أيضاً تُعفى خزائن (قارون) من الجباية، ويضيع المال في معمعة تشريعية غير متكافئة، تنتصر فيها المنفعة الشخصية على المصلحة العامة، في أقسى صور استغلال النفوذ الوظيفي، وسرقة المال.

رقصة التانغو
لا يختلف اثنان على أن جابي الضرائب أو موظف المالية، أصبحت له اليد الطولى في استمرار نزيف المال العام، وتفتق جراحه مقابل استيفاء “المعلوم” من المكلفين، في السر والعلن أيضاً، وبات واضحاً، أن الجباة (المتنفعين) بدؤوا يُبادلون المكلفين (المرضيّ عنهم) رقصة التانغو، على مرأى الدوائر المالية التي إما أن تكتفي بالتفرج، أو تصفّق إن لحقتها (طرطوشة). الوقوف على عمل مراقبي الدخل صار لزاماً، ولاسيما أن تجاوزات الموظف الحائز هذه الصفة غدت على عينك يا تاجر، وفي أغلب الأحيان فاضحة. إساءة موظف المالية لاستعمال الصلاحيات القانونية الممنوحة له، ليست بالأمر الذي يذكر، وإنما عدم وجود معايير موضوعية معلنة، يستند إليها المراقب أو الموظف الذي يضع القيمة التخمينية، ويحدد الضريبة على أساسها في قسم التركات، أو قسم الدخل أو العقارات والمحال التجارية، هو المشكلة. فالمادة /49/ من قانون ضريبة الدخل رقم /24/ لعام 2003 تنص بالبنط العريض، على أن مراقب الدخل يعد تقرير التكليف، ويذكر فيه جميع الاعتبارات التي اتخذها أساساً في التكليف، كما ينظم جدولاً بأسماء العاملين لدى المكلف، وأجورهم لاعتماده من الدوائر المالية.‏ أما الحاصل، فهو أن المراقب أو الجابي يضرب بكل شيء عرض الحائط، ويحتكم إلى اعتبارات مزاجه الرمادي، ويعد تقرير تكليف “من كعب الدست”.
تحصيل متعسف
(قنص في وضح النهار) هذا ما يقوم به موظف المالية، وفقاً لرئيس مجلس الإدارة في إحدى المجموعات الصناعية، إذ إن جابي الضرائب- والكلام لرئيس مجلس الإدارة- لا يتوانى البتة عن التكليف التقديري، وأحياناً الاعتباطي في جولاته الميدانية التفتيشية، التي كثيراً ما تكون على شاكلة (مداهمات)، إذ يفتشون حتى داخل علب المحارم بحثاً عن أية وثائق كما يدعون.
الإجراءات التي اتخذتها وزارة المالية في السنوات الأخيرة، بغية إحقاق العدالة الضريبية وتحسين سياسات الاجتباء، لم تؤتِ أكلها إطلاقاً، ذلك أن جرح التهرب مازال ينزف، فضلاً عن مراقب الدخل الذي بات “فرعوناً”. فإن كان المكلف ممن ينطبق عليهم مثلنا الأشهر “اللبيب من الإشارة يفهم”، (نفد بريشه)، وإن كان من (النقاقين)، طارت (غلّة) مصلحته لأشهر، وتمنى لو أن الأرض انشقت وبلعته، ولم يُدرجه موظف المالية في خانة “عدم المتعاونين”.
الدوائر المالية من حقّها الطبيعي، أن تطالب المكلفين على اختلاف شرائحهم، بسداد ما يتوجب عليهم من ضرائب ورسوم لكن بطريقة ( لبقة)، لا أن تلجأ إلى الطرق البوليسية لتحصيلها وكأنها تقوم بعملية دهم لمغارة لصوص، لتؤمن بعد موجة من الصراخ والترهيب “خرجية محرزة”، يقول رئيس مجلس الإدارة.
مُتهرّب حكماً
لا محال، أن غاية القوانين والتشريعات الضريبية، تحقيق العدالة الضريبية، لكن المُعضلة تكمن في التطبيق، ولاسيما في الضريبة على الأرباح الحقيقية. يُضافُ إليها (تشابك الضرائب) الناتج عن تسمياتها المتعددة، فتتكرر أماكن فرض مطارحها، كأن يُسدِّدَ المكلّف ما عليه من ضرائب إلى الهيئة العامة للضرائب والرسوم، ليجد نفسه يُسدِّدها ثانية إلى جهاتٍ أخرى، تحت مُسمياتٍ أخرى، على فواتير الكهرباء والماء والهاتف. فالمكلف في عرف المراقب والمُحصّل يكون دائماً (مًتهرباً حكماً)، ولعل مرد ذلك إلى حالة عدم الثقة التي تنشأ بين المُكلف ومُراقب الدخل إثر تواصل معارك الكرّ والفرّ بينهما.
مُراقب الدخل يمثل الحلقة الأقوى في مسلسلات التهرب الضريبي، برأي مستشار في شؤون الضرائب، فضلّ عدم ذكر اسمه. فالمراقب يُقدر من تلقاء نفسه وحسب مزاجه – والكلام للمستشار- علماً أن المكلف يتقيد بأحكام قانون ضريبة الدخل، لجهة مسك الدفاتر المنتظمة والكاملة والمعتمدة من محاسب قانوني حسبما نص عليه القانون الآنف الذكر. ولدى فرض الضريبة، تؤخذ بالحسبان الدفاتر الممهورة بخاتم الدوائر المالية، وهي سجلات فيها أرقام تُبين حركة ونشاط المكلف. وعلى هذه الأرقام، تُفرض الضريبة بحسب النسب التي قررتها القوانين.

عدالة ” الجيوب ”
اللافت في طريقة الجباية المتبعة مع المكلفين، أن الدوائر المالية، لا تأخذ بتلك الأرقام الواردة في الدفاتر الممهورة بختمها، إضافة إلى إهمال تقرير مدقق الحسابات، مُكتفيةً بالاستئناسِ بها. وهنا -وفقاً للمستشار- تلجأ (المالية) إلى تقدير الضريبة استناداً إلى سمعة المكلف وطبيعة نشاطه، إن كان الموظف (رايقاً). وفي المقابل، تلجأ إلى التكليف التقديري أو المباشر عبر تقدير رقم العمل ونسبة ربح صافية، بغض النظر عن كل النفقات والمصاريف التي تكبدها المكلف خلال العام.
التساؤل المشروع هنا، لماذا هذه الازدواجية في الاستيفاء والخروج الصريح عن القانون؟ هل السبب أن المُراقب لا يطمئن إلى سلامة الأرقام الواردة في الدفاتر، وفيها الدائن والمدين وبيانات الأرباح، ما يدفعه إلى الشك أن فيها كثيراً من المبالغة، لجهة المصاريف والأجور، أم إن (جيوبه) فارغة وسيتصرف هكذا حتى تصبح (مليانة)، فراتبه الزهيد لن يمكنه من شراء منزل وسيارة في سنتين، شأنه شأن رفاقه، الذين ينتقمون له من المعترض، لدى رفع الاعتراض على أي تخمين ضريبي، وإن اضطر الأمر يؤدبوه ويعيدوه إلى جادة الصواب، هذا إن أتاح له القانون الاعتراض. ففي 99 بالمئة من حالات الاعتراض على التخمين الضريبي، لا يحظى المعترض بتخفيض أكثر من نسبة 10 بالمئة من المبلغ المُكَلَّف به .
حاميها حراميها
بطل مسلسل التهرب الضريبي، هو الموظف المنوط به التكليف والتحصيل الضريبي، فدون استشاراته القيمة، ونصائحه الثرّة، لا يقدر المكلّف على التهرب، كما يرى الدكتور عابد فضلية، أستاذ الاقتصاد في جامعة دمشق. فالضريبة قد فرضت على المواطن لتسدد على سبيل الأمانة لمصلحة الخزينة العامة، أما أن تذهب إلى جيوب (المتنفعين) دون أن يستطيع أحد الاعتراض على تخمينها، فهو أمر ليس له تسمية أخرى سوى” سرقة المال العام” ومن المؤتمنين عليه وحماته.
إن تطبيق القانون الضريبي العادل، سهلٌ ممتنع في آن، فنحن هنا بحاجة إلى تحقيق أمرين معاً، الأول التقيّد بمفردات القانون، والثاني وضع الصّيغة المناسبة التي تكفل سلامة الأرقام التي تَرِد في سجلات المكلفين، بما لا يدعو إلى الشك فيها أبداً، الأمر الذي يجعل المكلف يرى في مراقب الدخل خصماً، لا مُواطناً يؤدي واجبه الذي يُفترض أن يلتزمَ به، وبالمقابل ذمة المكلف في نظر المراقب غير بريئة.
الموظف المسؤول عن التحصيل، والمكلف، والأنظمة الضريبية والتشريعية المطبقة، وأساليب التحصيل المتبعة، كلها بنظر الدكتور فضلية، تتحمل وزر التهرب الضريبي. فالتهرب بكل المعايير، يعد “سقطاً أخلاقياً”، لأن من يتهرب من تسديد مبلغ ما لخزينة الدولة، يضيع خدمات اجتماعية وعامة على المواطنين.
الموظفون المستشارون
ظاهرة بدأت تنتشر مؤخراً في الكثير من أروقتنا الحكومية، ومنها الدوائر المالية التي يعمل بعض من موظفيها المكلفين بالتحصيل كمستشارين لدى شركات ومصانع وجهات كثيرة، يقدمون خدمات ثرة ويأخذون مقابلها أموالاً جمة. فكم من موظف في المالية، اقتطع إجازة على عجل في (عز الشغل) وقت تدقيق الحسابات والتفتيش، لـ (يزبط) دفاتر وليّ نعمته. فلولا هذا التوافق بين المكلف بالضريبة والموظف المحصّل، لما وصل حجم التهرب الضريبي إلى 11,7 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، و40 بالمئة من موازنة الدولة، وفق تقرير للاتحاد العام لنقابات العمال.
هذه الشراكة القائمة على المنفعة المتبادلة بين المكلف وجامع الأموال، في نظر الباحث الاقتصادي والإداري، الدكتور هاني الخوري، ليست إلا حصيلة ثقافة وفساد متراكم لعشرات السنين، أديا إلى فساد الحصيلة الضريبية في سورية، كما أن إقدام المكلف على تزوير البيانات وفبركة الميزانيات، مضيعة كبيرة لخزينة الدولة، فضلاً عن أن عدم تحصيل الضرائب من المكلفين الكبار والمتوسطين، يوسع دائرة الضرائب غير المباشرة بالنسبة للفئات الأقل دخلاً، ويرهق كاهلها.
حلول
الحلول على المستوى التقني والفني، حاضرة وبكثرة، برأي الدكتور الخوري، إذ ثمة أساليب فنية تتبع تحليل المجتمع إلى شرائح، لمعرفة من هم الأغنى والأفقر، لبيان مدى مساهمة كل شريحة ضريبياً، كأن يقدم الأغنى ما بين 60 إلى 70 بالمئة من الحصيلة الضريبية، وبذلك يشكل إسهامهم هذا مدخلاً لحل أزمة اقتصادية، لا تضطر بعدها الدوائر المالية إلى مراقبة شرائح الدخل المحدودة جداً، التي يفترض بها أن تكون معفاة في الأصل من الضرائب، ما يساعد على إعادة جزء من توزيع الدخل الوطني. فإشكالية التحصيل الضريبي، لا يمكن حلها بشكل بيروقراطي، وعبر خبرات تقليدية، وإنما بالرجوع إلى خبرات أكاديمية وبقرار سياسي واضح.
جمع الضرائب، يشكل أحد أهم الموارد الرئيسية للإيرادات، الأمر الذي يحتم أن تتم بصورة نزيهة وواضحة حتى لا يتكسب أحد على حساب المال العام. فحتى اللحظة، ثمة مناطق رمادية في عملية الجباية، تعزز وجود ظاهرة التهرب الضريبي. للأسف الأشخاص الأقدر على استغلال وجود تلك المناطق الرمادية، هم الأطراف ذوو العلاقة المباشرة بالضرائب، من المكلفين مباشرة أو عبر بعض مدققي الحسابات، أو العاملين في الجهاز الضريبي.
مطلوب فوراً
تعدد وتنوع الأطر القانونية الناظمة للضرائب والرسوم، خلق إرباكاً لدى المكلفين، وذلك أن التشريعات الضريبية موروثة عن حقب مختلفة، ما يعني قطعاً تحديث تلك التشريعات أي (نفضها) لأنها اهترأت من الغبار. وقد يشكل وجود أنظمة محوسبة متقدمة لدى الإدارات الضريبية، ومحاكم لتحصيل الضرائب والرسوم، وتقديم مكافآت للموظفين، الذين تتدنى رواتبهم، وخاصة أولئك القابعين في مناصب مهمة، وتفعيل العقوبات على المخالفين، وتناسي طرق التحصيل اليدوية، التي هي غير مجدية، مدخلاً لحل إشكالية شقت عصا الطاعة منذ عقود.
في حالتنا هذه، أي تسهيل موظف المالية للتأسيس لمشكلة في آلية التحصيل الضريبي، لا بد من التشدد بالنسبة لجريمة المحاسبين القانونيين عند مساعدة المكلف على التهرب الضريبي، وإخضاع قرارات القائمين على التقدير (مراقبي الدخل) لإجراءات تدقيق مختلفة، حيث يكون هناك أكثر من عملية تدقيق، وقد تكون هناك دائرة مختصة للتدقيق في ملفات المكلفين بعد المُقدر، لأن الواقع أثبت عدم ثبات التقدير مع تقدم الزمن، فضلاً عن التوسع في موضوع الإعفاءات الضريبية، وتحديث نظام محوسب لمعالجة بيانات المكلفين.
غياب الثقة
تسديد الضريبة إلى الدولة، واجبٌ وطني. لكن للأسف في بلدنا غابت الثقافة الضريبية، إذ لا يعقل ونحن في 2011 أن المواطن العامل في القطاع العام، يُسدد من الضرائب قياساً إلى دخله، أكثر مما يدفعه تاجر، أو فلان من الناس، لا يتردد في القول لموظف المالية (إيدك وما تعطي).
ولعل الغاية الأساسيةَ، الوصول فِعلاً إلى عدالة ضريبية تحمي حقّ الدولة، لتوفر متطلباتنا، وترفع الغبن عن المكلفين، في أي مطرح ضريبي، ونعتقد أن هذه الأمنية، وصفة مستحيلة التطبيق في ضوء غياب الثقة بين المكلف وجابي الأحلام.‏

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]