“ركام الحرب وأنقاضها” أساس ميدان الإعمار.. إستراتيجية التدوير تبحث عن معايير محلية

 

 

ليس بتحد يسير ذلك اليوم الذي نتطلع إليه كسوريين بعد أن تهدأ الحرب وتضع أوزارها، فنمضي إلى بناء ما خرّبته عقيدة الإرهاب والفكر التكفيري، وما دفعناه ثمناً لإرادة استعصت على الانكسار، وعزيمة تتفتح انتصاراً، لعلها ستكون مرحلة أخرى توازي بالجهد والعمل مرحلة الإنجازات التي حققها ويستمر بتحقيقها جيشنا العربي السوري يوماً بعد يوم، وعاماً بعد آخر على امتداد الجغرافيا السورية، وفي حرب قسّمت العالم، ورسمت ملامح نظام عالمي جديد، ولكن حتى ذلك الحين، أسئلة كثيرة يمكن أن تطرح عن عدة أعددناها لمرحلة إعادة الإعمار، وعن خطط وأفكار ومشاريع يمكن أن توظّف في المستقبل القريب، فماذا عن مخططات جديدة للمدن؟ وماذا عن ملايين الأطنان من الأنقاض والمباني المدمرة؟ كيف ستكون الرؤية للتعامل معها؟ ومن هي الجهات التي أسهمت وستساهم في إعادة بناء سورية الجديدة؟!.

إحصائيات قليلة

لا تتوفر عند أكثر من جهة رسمية قمنا بزيارتها إحصائيات دقيقة للمناطق المتضررة حتى الآن، وتؤكد نقابة المهندسين هذه الحقيقة، وتبررها بنتيجة استمرار المتغيرات، ولكن النقابة توضح أنها تتواصل مع الجهات المختصة في هذا المجال، وهي: وزارة الأشغال العامة، ووزارة الإسكان والتنمية العمرانية، وفي المقابل تؤكد الشركة العامة للدراسات والاستشارات الفنية، وهي إحدى أذرع الدولة الاستشارية والفنية، أنه توجد لدى معظم الجهات الحكومية، كلاً على حدة، إحصائيات مختلفة عن الأماكن المتضررة، إلا أنها تعتبر إحصائيات أولية ومنقوصة بسبب استمرار تضرر المناطق والمنشآت حتى تاريخه، كما أن أغلبية الإحصائيات ترتبط بالمنشآت الحكومية، ولا توجد إحصائيات قابلة للذكر فيما يخص المنشآت والمشيدات الخاصة، ولا تستند إلى أسلوب هندسي موحد، فمعظمها يعتمد على التقديرات المالية للكلفة أكثر منها كمعايير وقيم إحصائية فنية، وترى الشركة أنه للوصول إلى إحصائيات وقيم جيدة ومفيدة يجب إطلاق خطة عمل متكاملة على المستوى الوطني تكون موحدة المنهجية والمعايير الفنية في تقييم وتصنيف أنواع الضرر ومستوياته، وبالتالي تحديد الكلف الأولية على المستويات المحلية، وعلى المستوى الوطني، وصولاً إلى بنك معلومات إحصائي شامل.

 

جهود مبذولة

ورغم قلة الإحصائيات، تتحدث المهندسة مجد مصطفى، معاونة مدير عام الشركة العامة للدراسات والاستشارات الفنية، عن جهود تمت في المرحلة السابقة في الإطار التحضيري لمرحلة إعادة الإعمار، منها رفع سوية كادرهم وتأهيله من خلال دورات تدريبية، وإصدار النسخة (0) من نماذج الاستثمارات الفنية لتقييم المنشآت المتضررة، وإعداد دلائل عمل ومنهجيات عملية لضبط آلية العمل، وتسريع وتيرة الإنجاز، ومنع الاجتهادات، وفق المعايير العالمية، بما يتناسب مع واقعنا في القطر، وصدر منذ فترة دليل الإشراف على تنفيذ المشاريع الذي اعتمدته الحكومة وفق تعميم مجلس الوزراء 20-9-2015، وسيكون الضابط لعمل المهندس المشرف، والمحدد لمهامه ومسؤولياته، وبحسب مصطفى تم تشكيل فرق عمل تقدم خدمات الدعم الفني في التشخيص الأولي للمنشآت، وقامت الشركة خلال الفترة الماضية بإنجاز تقارير، والكشف على بعض المواقع والمشاريع، ومنها: (مبنى الإدارة المركزية التابعة لوزارة التربية، مبنى الشركة العامة الأهلية للصناعات المطاطية، المؤسسة العامة للصناعات الزجاجية والخزفية، معمل ألبان دمشق، معمل الزيوت بحماة)، أما المشاريع التي أعدت لها دراسات ترميم، وإعادة تأهيل فهي: (صوامع الحبوب في الغزلانية وعدرا، مشفى دير عطية، ومشفى ابن خلدون بحلب، وإعادة تأهيل مبنى المراقبين الفنيين، ومركز التدريب الفني في حلب)، وتضمنت الجهود أيضاً المشاركة بالمشاريع الاستراتيجية، وإعداد دراسة تنظيمية لمناطق المخالفات في كل من: (يلدا- حرستا- داريا)، والمشاركة في أعمال مسح وتوصيف العقارات على موقع مشروع المنطقة التي شملها المرسوم التشريعي رقم /66/، وتقييم السلامة الإنشائية لمباني عدرا العالمية، وتقديم حلول التدعيم، وتأهيل المباني المتضررة، وكذلك ساهمت الشركة من خلال فرع المنطقة الوسطى بوضع التصورات الأولية لحلول إعادة تأهيل حي بابا عمرو.

تدوير الأنقاض

لعل أحد أهم الأسئلة الملقاة على طاولة المناقشات المتداولة في مرحلة إعادة الإعمار هو: إدارة الأنقاض الناتجة عن الحرب.. لقاءات وندوات عديدة بحثت هذه المسألة في إطار الاستعداد للتحديات المقبلة، يتحدث معاون وزير الإدارة المحلية، المهندس لؤي خريطة في ورشة عمل عقدت مؤخراً بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في سورية عن تلك المسألة، ويؤكد ضرورة تقديم التوصيات اللازمة بخصوص إدارة الأنقاض وتدويرها، ليتم رفعها إلى لجنة إعادة الإعمار، واعتمادها كدليل إرشادي في المرحلة المستقبلية، والتعاون مع برنامج الأمم المتحدة لإدارة النفايات الصلبة، وذلك من خلال تقديم الدعم الفني من قبل خبراء البرنامج، والاستفادة من التجارب الدولية في هذا المجال.

وبحثاً عن معلومات أكثر تفصيلاً عن الاستراتيجيات المتبعة عالمياً لإدارة الأنقاض وإعادة تدويرها واستخدامها، قصدنا مدير المعهد التقاني الهندسي، الدكتور ماجد أسعد، فأوضح لنا بأن فكرة تدوير المواد تنسجم مع استراتيجية في الدولة تسمى التنمية المستدامة، وهي أفكار موجودة عالمياً، وكان التوجه بشكل أساسي لهذا الموضوع، أي استخدام الهدم الناتج عن المباني بعد الحرب العالمية الثانية، نتيجة الحرب، أو الدمار، أو المخططات التنظيمية، أو تجديد المدن، وظهرت الفكرة بشكل أساسي في ايطاليا، كما تطورت بشكل ملفت في الصين، وكان التوجه العلمي بإعادة استخدامها في الاستخدام نفسه وهو البناء، وفي أوروبا اتجاه اليوم لأن تصبح هذه الصناعة شعبية بإعطاء حوافز لكل من يقوم بتدوير هذه الأنقاض كتقديم إعفاءات معينة لشخص يستطيع إقامة منشأة من مواد مدورة، وهي تقنية يمكن أن توفر أيضاً فرصاً للعمل، أما في الواقع السوري فإن سورية بدأت باكراً بطرح أفكار إعادة تدوير الأنقاض منذ عام 2000، خاصة بعد وضع المخططات التنظيمية لتنظيم أماكن العشوائيات في مدينة دمشق وما حولها نتيجة ظهور أنقاض كثيرة، ولكن كان هذا الأمر اختيارياً، أما في الظروف الحالية، ونتيجة اتساع البقعة الجغرافية للدمار بنتيجة الحرب الكونية على سورية في كل محافظات القطر، فلابد من الاستفادة من التطبيقات الموجودة عالمياً بخصوص هذه الأنقاض، وإعادة تدويرها واستخدامها.

فوائد بيئية واقتصادية

الدكتور أسعد تحدث عن منعكسات إيجابية، وفوائد اقتصادية وبيئية كثيرة يمكن أن يحققها الاستخدام المستقبلي لتدوير الأنقاض في مرحلة إعادة الإعمار، فمواد البناء عادة ما يتم استجرارها من مقالع قريبة، وهذا يتطلب سيارات نقل، إضافة للأثر البيئي السلبي، وهنا ستكون الأنقاض بديلاً عن المقالع، وهذا يحمي البيئة من جهة، ومن جهة أخرى فالأنقاض إن لم تستخدم ستكون مشكلة على مستوى استراتيجي وطني، فنحن بحاجة لسيارات وطرق نقل ومكبات لترحيلها، وهذا نزف لأموال وطنية، ويكمل: في العام الماضي انعقدت ندوات وورشات عمل كثيرة بالتعاون بين رئاسة مجلس الوزراء وهيئة البحث العلمي، بالإضافة لجامعة دمشق، ناقشت سبل استخدام هذه الأنقاض، وطرحنا مجموعة أفكار تحاكي استخدام الأنقاض عالمياً بعد طحنها وفرزها واختبارها للتحقق من جودتها في بناء الطرق أو جسم الطريق، واستخدامها في المجبول الاسفلتي، وفي أعمال البنية التحتية كالأرصفة وممرات الأقنية، والجدران في الأماكن العامة، وحتى في إعادة البناء نفسه من خلال تصنيع القواطع الداخلية (البلوك)، وحتى الحديد هناك آلات خاصة لإزالته وإعادة صهره واستخدامه مجدداً، وهو ما تم العمل فيه عبر عدة أبحاث بجامعة دمشق، لكن الفكرة المهمة التي أكد عليها الأسعد هي ضرورة أن تخضع هذه العملية لإدارة ورقابة فنية عالية الدقة لتحديد نوع الركام الذي يمكن تدويره، فشكل الأنقاض ومواصفاتها يختلف من منطقة لأخرى، ومن بناء لآخر، ويؤكد د. أسعد وجود آليات ومعدات خاصة في عملية إعادة طحن وفرز هذه المواد من مطاحن ومكاسر، وهي موجودة بأحجام مختلفة عالمياً، ويمكن استيرادها، ويختم: استخدام الأنقاض نظام متكامل لم يبدأ بعد في سورية،ولم تتوفر لدينا معطيات على المستوى الشخصي عن البدء بتنفيذ هذه الأفكار، وهو قرار استراتيجي على مستوى المؤسسات المعنية يجب اعتماده كضرورة، فهناك ملايين الأطنان من الأنقاض، وهي كميات ليس باليسير أو السهل التعامل معها.

أدوار منتظرة

بالعودة إلى الشركة العامة للدراسات والاستشارات الفنية تبدو فكرة تدوير أنقاض المباني حاضرة أيضاً، إذ تتحدث المهندسة مجد مصطفى عن إعداد دراسات عدة في مجال إعادة استخدام أنقاض المباني، ودراسة الكودات والمواصفات العالمية بهذا الخصوص، وتقديم مجموعة توصيات، ووضع مقترح أولي لمعيار محلي بهذا الخصوص، كما تتحدث عن بحث قدمته الشركة في مؤتمر إعادة الإعمار العام الماضي بعنوان: “نحو معايير محلية للاستفادة من الركام الناتج عن أنقاض المباني”، ورفع مذكرة لوزارة الأشغال العامة اقترح فيها وضع معايير محلية للاستفادة من الأنقاض، وإعداد معايير الحد الأدنى الواجب أخذها بعين الاعتبار للاستفادة من إعادة تدوير مخلفات الأبنية، وأكدت المهندسة مجد مصطفى أن الشركة العامة للدراسات والاستشارات الفنية تقع على عاتقها أيضاً مسؤولية أخلاقية وفنية كبيرة في المرحلة المقبلة، وسيكون لها دور بنّاء وفعال، خاصة مع انطلاق عملية إعادة الإعمار، وهذا الدور سيتجلى في المرحلة التحضيرية والمراحل الأولى لهذه العملية عن طريق جمع البيانات، وتحليلها، ثم إعداد الدراسات والحلول الهندسية للمناطق والمنشآت والبنى التحتية المتضررة، وخاصة أن الكادر العامل في الشركة يضم عدداً كبيراً من المهندسين والفنيين، وبكافة الاختصاصات، وهناك تراكم خبرة يتجاوز 35 عاماً، ومئات المشاريع الاستراتيجية والضخمة، إضافة لكون فروع ومراكز الشركة منتشرة في كافة المحافظات، وبالتالي سرعة الوصول والعمل في أي مكان، فالمشاريع المقبلة تصب في صميم عمل الشركة، وهي: (مشاريع تخطيط المدن والضواحي، وتنظيم مناطق السكن العشوائي، ودراسة تأهيل وترميم البنى التحتية للطرق، والجسور، والصرف الصحي، وشبكات المياه، والهاتف، والكهرباء).

كفاءات متوفرة

أدوار مشابهة يتحدث عنها الدكتور غياث القطيني، نقيب المهندسين السوريين، إذ يوضح قيام النقابة ومن خلال فروعها في المحافظات بتشكيل لجان فنية من المهندسين الاستشاريين للكشف على المباني المتضررة وعمليات المسح الميداني للمنشآت والبنى التحتية من أجل تقديم تقارير فنية عنها وتحديد المباني القابلة للتدعيم أو التي تتطلب الهدم والأماكن المشمولة، مع تأكيده أن النقابة تتواصل مع مختلف الوزارات ذات الصلة ومع الجهات العامة مثل الشركة العامة للدراسات وغيرها، علما أنه لدى النقابة الكفاءات المطلوبة، ولديها مكاتب استشارية في جميع فروعها بالمحافظات، بالإضافة إلى الوحدات الهندسية الجامعية وعدد كبير جداً من المهندسين برتبة الاستشاري وفي جميع الاختصاصات ومهندسين من مرتبة الممارس، وهؤلاء جميعاً قادرون على تحمل الأعباء التي ستلقى على عاتقهم وفق الإمكانيات المتوفرة، وكذلك الاستعداد للمشاركة في وضع برنامج وطني شامل لإعادة البناء والإعمار في سورية.

بحثاً عن دماء شابة

مشاركون آخرون يفترض أن يكونوا أحد المكونات الرئيسية في عملية إعادة الإعمار، وهم طلاب فروع الهندسة بالاختصاصات المختلفة عبر رؤى خلاقة تنبض بدماء الشباب وأفكارهم الجديدة، وبحثاً عن أدوار منتظرة من هذه الفئات نقصد عميد كلية الهندسة المعمارية الدكتور سلمان محمود، فيتحدث عن قيام الكلية باستمرار بطرح مشاريع تلامس مرحلة إعادة الإعمار (ما بعد انتهاء الأزمة) للطلاب فتهتم مثلاً بطرق تصميم السكن الانتقالي والسكن المؤقت (سكن الإيواء حالياً)، ويمكن ملاحظة أن معظم مشاريع تخرّج الطلاب تلامس متطلبات الواقع، في المقابل تتعاون الكلية بشكل حثيث مع معظم الجهات العامة، وفي الكثير من الأحيان تتبنى بعض هذه الجهات مشاريع الطلاب كأفكار أولية، ويتم تطويرها ويمكن أن تنفذ، ومن هذه المشاريع ما طرحته محافظة دمشق بخصوص تطوير حديقة السبكي، وكذلك الحال ما هو قائم بين الكلية والمؤسسة العامة للإسكان بخصوص المشاريع السكنية في ضاحية قدسيا، وكذلك مشاريع الاتحاد الرياضي العام وغيرها، عميد كلية الهندسة المعمارية يؤكد ضرورة الاهتمام بالمشاريع السكنية كأولوية في المرحلة المقبلة ويعتبرها أساساً للتنمية، ويختم بالقول: لا تنمية دون إسكان ولا إسكان دون تنمية.

نبضة إعمار

نبضة إعمار هو اسم أطلقته على نفسها إحدى الدفعات الخريجة من كلية الهندسة المعمارية لعام 2014-2015 لرغبتهم في المساهمة في إعادة إعمار سورية بعد الدمار الذي أصابها، وبحسب د. عبير عرقاوي الوكيل العلمي في كلية الهندسة المعمارية كانت رغبة الطلاب بتنفيذ مشاريع تخرج تحاكي مشاريع افتراضية يقوم الطلاب بإعدادها، وتكون البذور الأولى التي يمكن أن تتبلور في أكثر من اتجاه بعد عرضها على الوزارات والمؤسسات أو الهيئات المعنية، فتكون سبيلاً للاستفادة من طاقات الطلاب واستخدام الأساليب العلمية الحديثة في البناء، أمر مشابه يتحدث عنه الدكتور شكري بابا الوكيل العلمي في كلية الهندسة المدنية، عندما قامت إدارة الجامعة لديهم بتنظيم ورشة عمل العام الماضي بعنوان إعادة إعمار وتأهيل المنشآت الهندسية في سورية كأحد الجهود التي تبذلها الكلية للاستفادة من قدرات الطلاب ونشر المعرفة بينهم حول هذه المشكلة من أجل أن يتم التعامل معها بالشكل المناسب من خلال نشاطهم في المخابر وإعداد المشاريع الخاصة بهذه المرحلة، خاصة في مجال مشاريع التخرج وأبحاث الماجستير والدكتوراه، ويوضح د. شكري أنه من المفيد جداً للطلاب في هذه المرحلة زيادة هذه الورشات وتنظيم دورات تدريبية للطلاب وتطوير المخابر بما يتناسب مع الهدف المنشود، ويسهم في أن يكون طلاب سورية ومهندسوها المستقبليون نبضة أمل تعيد الحياة لسورية وتبني ما هدم فيها من جديد.

الخبير السوري – محمد محمود

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]