التهرّب الضريبي يُحوّل سورية إلى جنة إعفاءات خارجة على القانون

 

 

خاص – الخبير السوري:

ربما لم تجرؤ الجهات المعنية على الإعلان عن حجم التهرب الضريبي في سورية رغم أنه بتقدير القاصي والداني كبير جداً، لدرجة أن البعض قدر الرقم بضعف حجم الإيرادات المحصلة بشكل فعلي، ولعل عدم الإفصاح الحقيقي عن حجم التهرب يعود إما لعدم قدرة الدوائر المالية بالفعل وعجزها عن تقدير حجم التهرب (وهذا برأي البعض مستبعد) أو لأن هناك خشية من رأس هرم السلطة المالية من الإفصاح عن حجم التهرب لأسباب تتعلق –ربما- بإثارة حفيظة السلطة التنفيذية عن التقصير في التحصيل أو إثارة بلبلة هو في غنى عنها، وهذا ما حصل عندما قدر أحد وزراء المالية السابقين في أحد تصريحاته أن حجم التهرب الضريبي يصل إلى 200 مليار ليرة سورية ولكنه سرعان ما تنصل مما نطق به.

 

ثقافة مرتبكة

لا تزال ثقافة الالتزام الضريبي شبه معدومة في بلدنا لأسباب تتعلق بعدم انعكاس الضريبة بالمستوى المطلوب على الخدمات المقدمة لدافعيها، إلى جانب قصور التشريعات والأنظمة النافذة عن ضبط هذه الظاهرة، ناهيك عن عدم تحقيق العدالة الضريبية بين المكلفين بدليل تفاوت المعدلات الضريبية المفروضة على الرواتب والأجور من جهة وتلك المفروضة على الأرباح الحقيقية للقطاع الخاص، ولاسيما أن المشرّع خفّض معدل ضريبة الأرباح لتصبح أعلى شريحة ضريبية للأرباح 28 % بعد أن كانت 66% في حين رفع معدل الضريبة على الرواتب والأجور لتصبح أعلى شريحة لضريبة الرواتب والأجور 22% بعد أن كانت 15%، ما اعتبره الدكتور محمد خير العكام المختص بالتشريع الضريبي /كلية الحقوق – جامعة دمشق/ إجحافاً كبيراً بالنسبة لضريبة الدخل، وأن التشريعات الضريبية في سورية ابتعدت كلياً عن تحقيق العدالة الضريبية، موضحاً في حديثه لـ”صدى الأسواق” أنه ليس كل التشريعات الضريبية في سورية تعاني خللاً، وليست مسيرة الإصلاح الضريبي التي بدأت منذ عام 2002 سيئة بالمجمل، فهناك مواطن إيجابية لا يمكن إنكارها، ولكن عندما نوازن بين السلبي والإيجابي نجد أن السلبي أكثر من الإيجابي.

 

غموض ومحاباة

وعزا العكام التهرب الضريبي الكبير إلى عدم وضوح التشريعات وغموضها، وإلى الفساد الإداري الموجود لدى موظفي الضرائب ولاسيما أن السلطة التقديرية التي أعطيت لهم أسيئ استخدامها نتيجة غموض النص والعمل ضمن صلاحيات واسعة، معتبراً أن معالجة التهرب الضريبي لا يمكن أن تكون بشكل مفاجئ وإنما على درجات وعبر وضوح النصوص التشريعية وإيجاد علاقة تكاملية وثقة متبادلة بين المكلف والإدارة الضريبية، مؤكداً أن هذه العلاقة غير متوفرة بكامل عواملها، ولاسيما أن الإدارة الضريبية تعتبر المكلف حالياً متهرباً مفترضاً حتى يثبت العكس، في المقابل يتهرب المكلف كلما وجد لذلك سبيلاً لعدم قناعته بما يدفع من ضريبة غير عادلة.

وأضاف العكام إن جزءاً من التشريعات فيه محاباة لكبار رجال الأعمال على حساب محدودي الدخل، ورغم أن المشرّع يقول إنه يسعى إلى تحقيق العدالة الضريبية، إلا أننا لا نرى هذه العدالة في المعدلات التي يفرضها، مؤكداً أنه لا يمكن لأي تشريع ضريبي في العالم أن يحقق كل الأهداف المرجوة من عدالة ومكافحة تهرب…الخ، وفيما يخص التشريع السوري نجد أنه قلل من نسبة التهرب الضريبي وأعطى إحساساً لدى المكلف بعدم وجود عدالة ضريبية.

مفارقة

والمفارقة أنه رغم وجود النصوص القاسية ولاسيما الواردة في القانون 25 لعام 2004 الذي غلّظ عقوبة التهرب الضريبي وجعلها مخلة بالثقة العامة –حسب العكام- وأعطى السلطة التقديرية لموظفي الإدارة الضريبية إضافة إلى سلطة الضابطة العدلية لدرجة جعلهم يدخلون حتى غرف نوم المتهربين، فإن التهرب مازال موجوداً ما يدل على وجود الفساد في الإدارة الضريبية أولاً، وسلطة في غير مكانها ثانياً، موضحاً أن هذا التغليظ الكبير للعقوبات أخاف كثيراً من المستثمرين وجعلهم يحجمون عن الاستثمار في سورية.

 

تنصل

وفيما يخص التهرب الضريبي أكد العكام أن الرقم كبير جداً ويقدر بمليارات الليرات، وسبق لوزير المالية السابق أن أعلن أن الرقم بحدود 2 مليار لكنه تنصل منه، موضحاً أن الرقم أتى عندما أكدت دراسة صادرة عن صندوق النقد الدولي أن التهرب الضريبي في سورية يساوي ضعف حجم الإيرادات وذلك عام 2001 عندما كان حجم الإيرادات 1 مليار ليرة، فما بالك حالياً وحجم الإيرادات يصل إلى 4 مليارات ليرة سورية! مشيراً إلى أن ذلك لا يعني أن حجم التهرب بالضرورة هو 8 مليارات لكنه في الحقيقة أكبر مما كان عليه سابقاً.

لجان عادلة

يكاد يجمع العارفون بقضايا الضرائب وحقائق التهرب على أنه لا يمكن إلغاء التهرب الضريبي في أي مجتمع كان، ولكن في الوقت نفسه يمكن الحد منه، ومن الإجراءات الواجب اتخاذها بهذا الخصوص حسب العكام تشكيل لجان اعتراض ضريبي عادلة حيث لا تعبر عن وجهة نظر الإدارة الضريبية فقط، بل يجب أن تعبر عن وجهتي نظر كل من المكلف والإدارة الضريبية، وأن يرأسها قاضٍ متخصص في الأمور الضريبية، لكي تتكون قناعة لدى المكلف بضرورة اللجوء إلى الاعتراض الضريبي للوصول إلى حقه، وليس اللجوء إلى القضاء مباشرة كما هو حاصل الآن، وهذا برأي العكام يدق إسفيناً في العلاقة غير المتكافئة بين المكلف والإدارة الضريبية.

غياب الوعي

مدير التشريع الضريبي في الهيئة العامة للضرائب والرسوم علي عكر أكد أن التهرب الضريبي مشكلة يعاني منها معظم دول العالم وليس سورية فقط، موضحاً لـ”صدى الأسواق” أن السبب الرئيسي للتهرب الضريبي في سورية يعود سابقاً إلى معدلات الضريبة العالية التي وصلت إلى 100% أو أكثر، أما حالياً فلم يعد هناك داعٍ للتهرب لكون الشرائح الضريبية معتدلة وتتناسب مع جميع نشاطات المكلفين، معتبراً أن أسباب التهرب متعلقة بعدم وجود وعي ضريبي لدى المكلفين وعدم معرفتهم بشكل واضح بانعكاس ما يدفعونه من ضرائب على الخدمات المقدمة لهم، ورغم وجود عقوبات قاسية تصل إلى غرامة 200% من الضريبة أو الرسم السنوي عن سنة واحدة من التكليف أو جزء التكليف حسب الحال وتضاعف العقوبة في حال التكرار بحق المتهرب إضافة إلى السجن حسب القانون 25 لعام 2002، إلا أنها لم تردع المتهربين لاعتقادهم أنهم لا يكتشفون إلا بالمصادفة، علماً أن مديرية الاستعلام الضريبي ضبطت عدداً كبيراً من المتهربين ضريبياً.

وفيما يخص العدالة الضريبية بيّن عكر أن هناك توجهاً بهذا الخصوص حيث صدر عدد من التشريعات منذ عام 2003 هدفها تحقيق العدالة الضريبية منها القانون 60 لعام 2004 الخاص بالمتعهدين حيث أصبحت الضريبة تستوفى من المنبع (المبالغ المؤداة للمكلف مباشرة)، إضافة إلى القانون 41 لعام 2005 الذي اعتمد على القيمة المالية أساسا في التكليف وهي قيم متدنية مقارنة مع القيم الفعلية للعقارات، إلى جانب تخفيض الشرائح الضريبية التي كانت عام 1991 تصل إلى 66% لتصبح 28% و 42% للشركات الاستثمارية و14 % للشركات المساهمة، مضيفاً إن شركات القطاع العام تخضع لمعدل وحيد قدره 28% بينما شركات القطاع الخاص تخضع لنظام الشرائح وهذا برأي عكر ظلم للقطاع العام لكونه يدفع أكثر من نظيره الخاص، مؤكداً أنه تتم حالياً إعادة دراسة جميع التشريعات الضريبية بما فيها تلك المتعلقة بضريبة الرواتب والأجور التي لم يتناولها حتى الآن أي تعديل.

لكن بقي أن نقول في سياق الأحاديث عن غياب العدالة الضريبية: إن كثيرين يأخذون على التشريع الضريبي السوري أنه رخو وليس متشدداً لجهة العقوبات المفروضة بحق المتهربين، ففي أوروبا هناك عقوبات تصل إلى حدّ سجن المتهربين إن كانوا من كبار رجال الأعمال أو صغارهم، لكننا لم نسمع بعقوبة كهذه ولا بتطبيقاتها، أي إن كانت موجودة في تشريعاتنا فهي مغيبة وعلى الأرجح هي غير موجودة.

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]