المباني الخضراء بوابة خروجنا من واقعٍ أسود نحو مساحات بيضاء… خلاص من تهمة “الإسكافي حافي” و مستهلكي الطاقة إلى منتجين لها

 

 

 

خاص – الخبير السوري:

“المباني المستدامة أو الخضراء” لم تعد ضرباً من المستحيل، أو أحلاماً لا مكان لها من الواقع، أو مجرد ترف أكاديمي – كما يدعي البعض- بل باتت توجهاً تطبيقياً عالمياً، وممارسة مهنية واعية بدأت تتشكل ملامحها وأبعادها بشكل جلي في أوساط المعماريين والمهندسين المعنيين بقطاعات البناء. فالتصميم أو العمارة الخضراء، التي هي العمارة الأكثر كفاءة في استهلاك الطاقة، قد تغدو طوق نجاة لـ ” قطاع الطاقة السكني في سورية” عند التمعن في أوضاعنا البيئية العسيرة، ومواردنا التي تعاني الاستنزاف منذ عقود. حاجتنا إلى تطبيقات العمارة الخضراء، والإنشاءات المستدامة، كأساليب جديدة للتصميم والتشييد تستحضر التحديات البيئية والاقتصادية، التي ألقت بظلالها على مختلف القطاعات في الوقت الحالي، أضحت أكثر من الدول الصناعية المتقدمة، وخاصة إذا علمنا أن التكلفة الاستثمارية لقطاع الطاقة السكني في سورية، حتى   2020 تبلغ نحو 14 مليار دولار، وفقاً لهيئة تخطيط الدولة.

إن تطبيق الإدارة الخضراء، ومفاهيم الاستدامة في صناعة البناء، يحتم علينا وضع حد لاعتباطية اختيار أنظمة ومواد البناء، وقرارات التصميم والإشراف والتنفيذ التي تتخذ على عجل في أروقة المكاتب الهندسية والاستشارية، لأنها أصبحت تشكل خطورة كبيرة على مستقبل بلد يعد من أغنى عشر دول في العالم، بتنوع مصادر الطاقة المتجددة الشمسية والريحية والحيوية.

ثروة مهدورة التصاميم المستدامة لا تعكس الاهتمام المتنامي لدى القطاعات العمرانية، بقضايا التنمية الاقتصادية في ظل حماية البيئة، وخفض استهلاك الطاقة، والاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية، والاعتماد بشكل أكبر على مصادر الطاقة المتجددة فقط، بل تحول قطاعات برمتها وفقاً لدراسات الجدوى للمبادرة الخضراء للتنمية في سورية، إلى قطاعات منتجة للطاقة، بدلاً من كونها مستهلكة لها. فالمباني الجديدة، يتم تصميمها وتنفيذها وتشغيلها بأساليب وتقنيات متطورة تسهم في تقليل الأثر البيئي، وفي الوقت نفسه تقود إلى خفض التكاليف، وعلى وجه الخصوص، تكاليف التشغيل والصيانة. كما تسهم في توفير بيئة عمرانية آمنة ومريحة، فضلاً عن أن الإدارة والسيطرة البيئية على المشروعات العمرانية، تشكلان واحدة من أهم المعايير التنافسية في هذه القطاعات في القرن الحادي والعشرين.

وقائع

دراسات المبادرة الخضراء للتنمية في سورية، تشير إلى أن الدعم السنوي المقدم لقطاع الطاقة يشكل العقبة الأساسية أمام الاقتصاد السوري، إذ يستنزف القسم الأكبر من الموارد. فكل منزل يتلقى دعماً بـ400 دولار للطاقة الكهربائية كدعم استثماري، وهي تكلفة 2 كيلو واط ساعي، إلى جانب 500 دولار تكلفة تشغيلية. أما في قطاع التدفئة، فكل منزل يتلقى سنوياً 500 دولار، و300 دولار للمياه، مقابل 15 دولاراً يومياً للنفايات المنزلية. إذاً، التكلفة الاستثمارية لقطاع الطاقة السكني في سورية، هي الأعلى عالمياً، الأمر الذي يستدعي دمج ممارسات وتطبيقات العمارة المستدامة الخضراء، في ضوء تسارع عمليات إنشاء وتشغيل المباني العمرانية، التي باتت واحدة من أكثر الصناعات استهلاكاً للطاقة والموارد في العالم.

 

“إسكافي حافي”

استثمار مصادر الطاقة المتجددة في سورية، التي تصنف من أغنى عشر دول في العالم بتنوعها، لابد أن يكون الهدف الأول لأي خطة تنمية، نظراً للعبء الكبير الذي يشكله قطاع دعم الطاقة على إجمالي موارد الدولة، والدخل الوطني، والذي وصل إلى أكثر من 6 مليارات دولار لعام 2007. إحصاءات هيئة تخطيط الدولة، تشير إلى أن سورية تحتاج إلى حوالي مليون منزل حتى عام 2020، وهذا يتطلب وفق آليات العمل المتبعة حالياً، خمسة مليارات دولار لتأمين الطاقة الكهربائية، وثلاثة مليارات لتأمين وقود التدفئة، وملياري دولار لتأمين المياه، وأربعة مليارات دولار لقطاع النفايات.

وبذلك يكون المطلوب حوالي 14 مليار دولار لتأمين الطاقة للقطاع السكني في البلاد.

التوجه نحو بناء العمارات الخضراء، يمكن من تنفيذ الخطط المطلوبة على أكمل وجه، ويوفر على الدولة كل هذه المبالغ التمويلية، ولاسيما أن الطاقة بأنواعها لدينا متوفرة. فكميات أشعة الشمس وحرارتها ووهجها في منطقتنا، هي من أعلى المعدلات في العالم. هذا يعني وجود فرص ذهبية لتوظيفها كمصدر بديل لإنتاج الطاقة، إضافة إلى استغلالها في إضاءة المباني، والمنشآت خلال ساعات النهار.

لكن المفارقة، أن نسمع عن مبانٍ في بعض البلدان، التي تغيب عنها الشمس لأيام طويلة في السنة، تعتمد بشكل أساسي في الإضاءة الداخلية على ضوء النهار الطبيعي حيث توفر نصف كمية الطاقة المستهلكة في الإضاءة، بينما نرى مبانينا التي تقبع تحت الشمس الحارقة، والوهج الضوئي القوي مظلمة ومعتمة من الداخل، وتعتمد فقط على الإضاءة الاصطناعية التي تضيف أعباء اقتصادية إلى فاتورة الكهرباء، لينطبق علينا المثل الشعبي (إسكافي حافي).

وصفة (طاقوية)

التكلفة العالية للطاقة، والمخاوف البيئية والقلق العام حول ظاهرة “المباني المريضة” المقترنة بالمباني الصندوقية المغلقة في فترة السبعينيات، جميعها ساعدت على إحداث قفزة البداية لحركة العمارة المستدامة الخضراء. وليس من قبيل المبالغة القول: إن تطبيقات العمارة الخضراء، ستحقق إدارة آمنة للطاقة، لا بل ستقلب مفاهيم إدارة الطاقة، من خلال تحويل المستهلك إلى منتج للطاقة، وشركات الكهرباء إلى زبون يشتري الطاقة التي تنتج من المدن الخضراء، وفائض الطاقة من الشركات الصناعية وفق نظام “أمن الطاقة “، إن تم تطبيق هذه الوصفة الطاقوية على محمل الجد.

جدوى

إن اعتماد التقنيات الخضراء في قطاع البناء السوري، والكود الأخضر الذي يتضمن الحلول المتكاملة للعمارة الخضراء، وفق الخبراء، يسهم في تخفيض استهلاك الفرد من الطاقة الكهربائية إلى النصف، ومن المياه بنسبة 40 بالمئة، ومن التدفئة بنسبة 30 بالمئة. مع اللحظ، أن حاجة العمارة الخضراء من الطاقة تؤمن من أنظمة الطاقة المتجددة ذاتياً من كل مبنى، إلى جانب تأمين فائض يعادل ضعف حاجة المبنى.

إما في قطاع البناء والعمارة، فإن تطبيق التقنيات الخضراء، يؤدي إلى توفير 36 بالمئة من الاستهلاك في الطاقة الكهربائية، و100 بالمئة من وقود التدفئة، فضلاً عن تخفيض الانبعاثات الكربونية الضارة بنسبة 100 بالمئة، وإقامة صناعات شتى  لمواد الطاقة الخضراء، التي تعتمد على المواد الأولية المحلية.

كما يرى الخبراء أن تطبيق التقنيات الخضراء في قطاع المياه المنزلي، يوفر على سورية 40 بالمئة من إجمالي الاستهلاك المنزلي للمياه، ويعيد استخدام30 بالمئة من إجمالي المياه المنزلية، وكذلك استخدام مياه الصرف المطري في ري الغطاء النباتي للمجمعات الخضراء.

الوصفة المزمعة من الطاقة، ليست إلا حمالة مفاجآت لاقتصادنا، في وقت لم تعد هناك خطوط فاصلة بين البيئة والاقتصاد، منذ انتشار مفهوم التنمية المستدامة الذي لم يدع مجالاً للشك بأن ضمان استمرارية النمو الاقتصادي، لا يمكن أن يتحقق في ظل تهديد البيئة بالملوثات والمخلفات، وتدمير أنظمتها الحيوية واستنزاف مواردها الطبيعية.

مسؤولية

المطلوب يحتم على المعنيين بقطاع الطاقة السكني، البدء بسن التشريعات اللازمة لتوطين هذا النوع من التصاميم الخضراء، في القطاع العمراني الذي لم يعد بمعزل عن القضايا البيئية الملحة، التي بدأت تهدد العالم في السنوات القلائل الأخيرة. فهذا القطاع يعتبر أحد المستهلكين الرئيسيين للموارد الطبيعية كالأرض والمواد والمياه والطاقة.

تأسيس جهة تحت مسمى /هيئة العمارة الخضراء/ تتولى وضع أسس ومعايير للعمارة الخضراء، وفق قانون التطوير العقاري، وكأساس للترخيص لأي مشروع تطوير عقاري، مهمة تقع على عاتق وزارة الإسكان والتعمير أولاً، ومن ثم وزارة الإدارة المحلية التي يناط بها إصدار التشريعات والتعليمات التنفيذية لإحداث مناطق خضراء للتطوير العقاري ومدن خضراء، فضلاً تأمين الأرضية القانونية لتطوير المجمعات العمرانية الحالية إلى مجمعات خضراء.

نقابة المهندسين هي الأخرى مدعوة للمشاركة في تعميم هذه التجربة الصديقة للبيئة، وذلك عبر اعتماد الكود الأخضر المتضمن العزل الحراري، بديلاً للكود الحالي المعتمد للعمارة التقليدية، في حين أن وزارة الكهرباء ستكون مهمتها استلام الطاقة الفائضة التي تنتج من المدن الخضراء.

 

هواجس

يخشى أن يقع قطاعنا السكني مجدداً ضحية تداخل التشريعات وخلطاتها السحرية، واللعب على الأسطح كما حدث مع وزارة الدولة لشؤون البيئة، التي شاركت في اللجنة المشكلة لإعداد دليل استرشادي للعمارة الخضراء، على أن تنتهي من إعداده في نهاية العام الحالي، وها هي السنة قد شارفت على الرحيل، ووزارة البيئة “لا من تمها ولا من كمها”.

ليس من المبالغة، أن نقول: إن الحديث عن العمارة الخضراء والمباني المستدامة، قد أصبح من الأمور المألوفة في الأوساط المهنية الهندسية في الكثير من الدول، تزامناً مع القلق المتزايد بشأن التأثيرات السلبية للبيئة المشيدة على الحالة البيئية لكوكب الأرض، بالإضافة إلى التحديات الاقتصادية المتفاقمة نتيجة لارتفاع تكاليف الطاقة ومواد البناء. فالطاقة المستهلكة في أنشطة البناء، لا تتوقف على عمليات التشغيل التقليدية، لأن الطاقة مجسدة في مواد البناء نفسها، وفي استخراجها من الطبيعة وتصنيعها، ونقلها وتركيبها وتجميع الفاقد والتخلص منه.

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]