جدلية دمج الشركات الإنشائية تخرج عن حدود النقاش المكتبي إلى مشكلات التطبيق

تثير تجربة دمج المؤسسات الحكومية، والشركات الإنتاجية، والتراجع عنها، وإعادة دمجها من جديد، الاستغراب، إن لم نقل الاستهجان والتندر، لاسيما أن أغلب وقائع الدمج التي حصلت لم تثبت نجاعتها ولا صوابيتها،  وبالتالي لم تنجح بالشكل الذي أريد له، بل نقولها بكل وضوح: لقد فشلت فشلاً ذريعاً في محطات ومواقع عديدة، وأزمان كثيرة، وقد جرى التراجع عن الكثير منها، ومع ذلك ترانا نعود بين الفينة والأخرى لنكرر الأمر ذاته، والتي كان آخر عناقيدها دمج فروع الشركة العامة للبناء والتعمير، واختصارها وفق توضعها وانتشارها الجغرافي  إلى النصف، ودمج عدد من مؤسسات التجارة الداخلية تحت مسمى السورية للتجارة، وفي القريب العاجل سيتم إعلان دمج مؤسستي الحبوب والصوامع ضمن مؤسسة واحدة حالما تنتهي اللجان المشكّلة لهذه الغاية من أعمالها، وفق كلام أطلقه من محافظة طرطوس وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك عبد الله الغربي في زيارته الأخيرة لطرطوس. وما جرى من دمج لوزارات وإدارات عامة، وشركات، والتراجع عنه، فيه ما فيه من المؤشرات والدلائل التي تمكننا من القول: إن نوعاً من عدم النضج والتجريب يخيم على مثل هذه القرارات إلى حد كبير؟!.

من 14 إلى 7

سنتوقف في هذه العجالة عند مفاعيل دمج فروع الشركة العامة للبناء والتعمير، فمع نهاية العام المنصرم، وبالتحديد في 26/12/2016 أصدر وزير الأشغال والإسكان حسين عرنوس القرار 1543 القاضي بإعادة توزيع فروع الشركة العامة للبناء والتعمير، وعددها 14 فرعاً إلى 7 فروع، لتصبح: فرع دمشق القائم حالياً ومقره محافظة دمشق، وفرع المنطقة الجنوبية نتيجة دمج فروع السويداء، ودرعا، والقنيطرة مع ريف دمشق، ومقره محافظة ريف دمشق، وفرع المنطقة الوسطى نتيجة دمج فرعي حماة، وحمص، ومقره محافظة حمص، وفرع المنطقة الشمالية نتيجة دمج فرعي ادلب، وحلب، ومقره محافظة حلب، وفرع المنطقة الساحلية نتيجة دمج فرعي طرطوس، واللاذقية، ومقره محافظة اللاذقية، وفرع المنطقة الشرقية نتيجة دمج فروع الرقة، ودير الزور، والحسكة، ومقره محافظة الحسكة، وفرع الإنشاء السريع القائم حالياً، ومقره محافظة حمص.

وكما هو واضح فإن تفاصيل القرار توحي في ظاهرها بأنه أتى لضغط النفقات، وزيادة قدرات العمل، وسرعة الإنتاج، وتقليل مدته الزمنية، وتخفيض الورقيات، وأعباء العاملين، وتحسين مواصفات العمل الفنية، وزيادة الثقة بين المتعاملين من القطاعين العام والخاص مع الشركة، والابتعاد عن المركزية الإدارية، واستقلالية المشاريع النوعية، فهل هو فعلاً– أي القرار- كذلك؟!.

إجابة مبكرة

قد يقول أحدهم إن الإجابة عن هذا السؤال لاتزال مبكرة بعض الشيء، وقد يكون ذلك صحيحاً، لكن المعطيات المتاحة، وهي كثيرة، تجعلنا نقدم قراءة مبكرة ربما لما يتعلق بإحداث فرع المنطقة الساحلية على وجه الخصوص، فما ينطبق على فروع المنطقة الجنوبية، أو الوسطى، أو الشمالية، أو الشرقية قد لا ينطبق على المنطقة الساحلية، وعلى ذلك فإن دمج فرعي طرطوس واللاذقية كان يجب التوقف عنده، والنظر إليه بمنظار مختلف لأسباب عديدة، أولها اعتبارات الأمن والأمان في جبهة عمل الفرعين، ولحيوية ونشاط عملهما، وجبهات العمل الكبيرة والكثيرة التي يعملان فيها، وبنظرة موضوعية أولية إلى المساحة والطبيعة الجغرافية الجبلية الصعبة التي ستكون الملعب الطبيعي للفرع المحدث، سنجد أن الدمج أدى إلى بعد مركز القرار عن المشاريع، وصعوبة الوقوف المباشر على مشكلاتها،  وإيجاد الحلول الآنية السريعة بعيداً عن المراسلات المتبادلة، وانتظار الردود، بالإضافة إلى زيادة حجم الشركة المحدثة بشكل كبير، ما سيساهم برفع نفقات متابعة أعمال الفروع، وصعوبة تأمين حركة وسكن الموظفين، والمديرين المركزيين الذين انتقلوا من محافظاتهم إلى الإدارة العامة الجديدة، ما رتب ويرتب نفقات، وأجور سفر، وسيارات، وسكناً، إلى جانب الحركة اليومية للإدارة من وإلى الفروع وبالعكس، واضطرارها لقطع مئات الكيلومترات، وتنقل عشرات الموظفين دون نتائج إيجابية تذكر، في الوقت الذي نحن بأمس الحاجة فيه إلى زيادة الإنتاج، وضغط الإنفاق، وهذا هدر لا مبرر له، ولم نتوقف عنده بالشكل الذي يجب بتقديرنا؟!.

سجل حافل

ولو حددنا أكثر وأخذنا على سبيل المثال فرع تعمير طرطوس بحكم وجودنا في دائرة عمله، ومتابعتنا للكثير من إنجازاته، وحضوره، وقدرته على تأمين جبهات عمل دائمة ومتجددة لم تسبقه إليها أي من الشركات الإنشائية العامة ولا الخاصة القائمة في المحافظة ولا غيرها بفضل الثقة التي انتزعها طوال سنوات أدائه على مر وتعاقب إداراته وليس الإدارة الحالية وحسب، والتي كان آخرها أعمال تنفيذ مبنى اتحاد عمال طرطوس الذي تتجاوز تكاليف إنجازه المليار ونصف مليار ليرة، وقبلها تصديه لإنجاز سد الدريكيش وتنفيذه في ظروف قاسية وبفارق مالي وصل أرقاماً كبيرة بينه وبين إحدى شركات الإنشاءات العامة فكيف بالخاصة، والقائمة تطول تجعلنا نتوجس الدمج الذي قد يرتد سلباً على مجمل أدائه، ولابد من الإشارة إلى أن هذا الموضوع كان محل انتقادات كثيرة في المؤتمرات النقابية وموضع مطالبة للعودة عنه… فإذا وضعنا أمامنا هذا السجل الحافل سنجد أن الدمج الذي شمله كان يجدر به التوقف عند هذا التاريخ والأداء إلى جانب العديد من الأمور ودراستها أكثر، آخذين بعين الاعتبار أن الفرع المذكور – استناداً إلى الفاكس المرسل من إدارة فرع تعمير طرطوس إلى إدارته العامة بتاريخ 31\12\2016 برقم 3496\ص ف ط – ناجم عن دمج ثلاثة فروع سابقاً وأن خطته تجاوزت 1.4مليار ليرة وإنجازه يتجاوز 1.5مليار ليرة للعام 2016 أي بنسبة تنفيذ تراكمية وصلت إلى 107% وكان من الممكن أن تكون نسبة التنفيذ أعلى لو أضيفت له فروقات أسعار الآليات والمواد غير المحصور بيعها للقطاع العام بالرغم من العدد الكبير للفنيين والإداريين والمرضى وحجم النفقات الناجم عن تباعد المشاريع، حيث يصل عدد عامليه إلى 815عاملاً ومشاريعه تغطي كامل مساحة المحافظة وفي مناطق جبلية وعرة ومتباعدة، وبعضها مشاريع مميزة ونوعية كمشروع مشفى خزنة والعيادات الشاملة ومحطة معالجة القليعة الدلبة والدالية، كلهم حريصون حتى عمالهم ينتشرون في معظم مناطق المحافظة الجبلية البعيدة وهذا يتيح الاستفادة من وجودهم في أماكن عمل قريبة من مناطق سكنهم، لاسيما في ظل عدم وجود آليات تقلهم من مقر الشركة لأماكن عملهم عدا المعاناة مع وسائط النقل الخاص التي لا تتوفر بالشكل والزمن المناسبين وهناك الكثير من التفصيلات التي يطول شرحها كتحصيل استحقاقات الشركة من الفروقات في ظل الظروف الراهنة بالتعاون مع كافة الجهات في المحافظة وغيرها من المعطيات التي تسوغ وتشرعن العودة عن قرار فصل فرعي طرطوس واللاذقية.

 

وهناك كتاب آخر موجه من إدارة فرع التعمير بطرطوس إلى محافظ طرطوس بنفس التاريخ برقم 3498\ص ف ط يبين أن الدمج الحاصل لن يحقق الغاية المرجوة وأنه يحتاج لدراسة أكثر ولا ينطلق من واقع يحتاج إلى معالجة ويطالب كتاب فرع التعمير بضرورة اتخاذ الإجراءات المناسبة لطي مضمون القرار وإعادة الواقع إلى ماكان عليه قبل صدور القرار من خلال مخاطبة رئاسة مجلس الوزراء ووزير الأشغال لإلغاء مفاعيل القرارات الخاصة بفرع الشركة بطرطوس وإعادة الوضع كما كان.

الدمج ضمن المحافظة الواحدة

بالعودة لقرار وزارة الأشغال والإسكان، يبرز التوجه نحو الدمج ضمن المحافظة الواحدة حلاً خلاقاً وحقيقياً تعطى فيه الصلاحيات للفروع ومراكز الإنتاج والمشاريع ذات الطبيعة الخاصة لتصبح لا مركزية وأكثر قدرة على المناورة وأن تكون إيرادات الأعمال مخصصة لمعالجة وضع استحقاق القطاعين العام والخاص حرصاً على مصلحة الشركة في إنجاز التزاماتها العقدية وهذا هو في الواقع فحوى دراسة قدمت لوزارة الإسكان والتعمير برقم 1999\و تاريخ15\12\2003 حول دمج الشركات أعدها م.غانم غانم مدير فرع تعمير طرطوس المحال قبل توليه إدارة الفرع استبعاداً واستباقاً لأي تحليلات واستنتاجات لسنا بواردها لا من قريب ولا من بعيد بين فيها دور شركات الإنشاءات العامة الرائدة في تنفيذ المشاريع الاقتصادية الكبيرة وتأمين الحد الأدنى المعيشي لكثير من الأسر ومساهمتها في استقرار وإرساء دعائم الاقتصاد الوطني رغم الصعوبات والعقبات مثل سوء الإدارة وعدم توفر جبهات العمل والسيولة وسلبية بعض الأنظمة والقوانين والمنافسة غير المتكافئة وعدم تكامل الدراسات للمشاريع الاستثمارية ويقترح إحداث شركة عامة واحدة في كل محافظة من ضمنها المؤسسات العسكرية الإنشائية “الإنشاءات والإسكان والأشغال العسكرية…” وتعيين مدراء عامين ومدراء مركزيين وفروع على أساس الكفاءة والمقدرة واعتماد أنظمة وقوانين أكثر مرونة لمواكبة تطورات العصر واتباع نظم جديدة لتقييم الأداء واعتماد مبدأ الربح والخسارة وربط الأجر بالإنتاج والمساءلة وتجديد الآليات ومعالجة الآليات الموجودة وتأهيل وتدريب العاملين ومعالجة صرف الكشوف والاستحقاقات لتوفير السيولة واعتماد هيكلية إدارية تستفيد من الخبرات الفنية والإمكانيات بين الشركات والسماح ببيع واستثمار ومعالجة موضوع الموجودات الثابتة التي تعتبر فائضة من الشركات في المحافظة الواحدة مثل الأبنية والمستودعات والأراضي، ومحاربة الهدر، وهذا سيتيح تنفيذ العمل المطلوب بسوية فنية جيدة تقلل من الأخطاء والهدر وتسرع في الإنجاز.

وعلى هذا الأساس فإننا ندرك أن العودة عن الدمج لن يكون بهذه البساطة، لكن من المفيد التمعن والتبصر والتوجه نحو إحداث شركة إنشائية عامة واحدة تكون حصيلة الشركات الإنشائية العامة المدنية والعسكرية الموجودة في كل محافظة، هذا يفي بالغرض ويحقق الغاية المنشودة ويكون أجدى وأنجح فقد شبعنا تجريباً ومن يجرب المجرب…الباقي عندكم…!!؟

 

وائل علي

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]