عقود ومناقصات برائحة الارتكاب.. وملاحق مريبة تُجيَّر لمصلحة متعهدين متنكرين بأثواب جهات عامة؟؟

 

خاص – الخبير السوري:

ماذا لو ادعينا أن معظم ممارسات الفساد التي تجري في مؤسساتنا تجري بقانون، أو أن ثغرات القوانين هي التي تحمي أو تسهّل مرور الراغبين بتجريب حظهم مع صفقات ما فوق الطاولة، بعد نجاحهم اللافت في صفقات مرّروها من تحت الطاولات؟.. هو زعمٌ قد يبدو قاسياً بعض الشيء، لأنه يثير الهواجس حول كفاءة تشريعاتنا في ردع “الطامحين” عن العبور إلى مفازات الفساد الرحبة، وبالتالي يحفز الشكوك حول إمكانية محاسبة الفاسدين، بما أننا نتحدث هذه الأيام بكثرة عن مكافحة الفساد.

ولعلنا لن نأتي بجديد بل نذكّر تذكيراً بأن المتاجرة بقرار هي فساد خطير، وأخطر ما فيه أنه غير ملموس، وأن في مؤسساتنا خبراء متخصصين بالتعاطي مع ثغرات القوانين التي تسمح بتطويع التشريعات، تقصيراً وتطويلاً، فمن قال إن تشريعاتنا غير مرنة!.

متَّهم ومُدان

قد يكون أكثر الأمثلة وضوحاً على أن التجاوزات التي تحصل في مؤسساتنا تحصل بقانون هو قانون العقود والمناقصات أو شيء من هذا القبيل، ولا يهم الرقم أو تاريخ الصدور كما نعتقد، فهو قانون شهير بمجرد أن نقول عقود أو مناقصات.

إنه من المفيد أن يحاول أحد ما يُكلّف رسمياً بأخذ عينة من العقود الكبيرة التي تبرم وفق أحكام هذا القانون، والتحري عن الفروقات بين الأسعار التي رسا عليها العقد والأخرى الأقل التي كان من الممكن أن يرسو عليها، ونحن على يقين بأن الفروقات ستكون كبيرة، وستكون هائلة تفسّر ضياع معظم الموازنات الاستثمارية لمؤسساتنا في دهاليز التلاعب.. وكل شيء بقانون طبعاً، إذ يجري الإعلان عن المشاريع كبرت أم صغرت، ويتم إعداد دفتر الشروط الخاص بها، أي بكل مشروع ثم يتقدم العارضون بعروضهم في ظروف مختومة يجري فضها في توقيت محدد، وغالباً يكون بين المتقدمين “ائتلاف” من المنفذين أو الموردين –حسب موضوع العقد- يتفق على تراتبية أسعار بفوارق بسيطة للغاية، ويتم التفاهم على مَنْ سيكون صاحب الحظ ليتقدم بأرخص سعر، وإن رغب أحد ما من العارضين بالمنافسة يتم إرضاؤه بحفنة من المال ليحجم عن العرض، وإن أصرّ فإنه يصار إلى كسر سعره عن طريق لجان الفض والتقييم عبر تضمين العرض فقرة مغرية تسمح للجنة قانونياً باختيار عرض “الائتلاف” واستبعاد “كاسر” الأسعار، كأن يقال إن التجهيزات ألمانية أو أمريكية بدلاً من الصينية أو التايوانية.

ما يحصل أن العرض الفائز يكون دائماً من نصيب زبائن تقليديين لا يسمحون بدخول أي عارض جديد على خط المنافسة، وتبقى منافستهم شكلية مئة في المئة، والميزة هي ارتفاع تكاليف المشروع إلى درجة الضعف أحياناً، ويساعد في ذلك التكاليف التقديرية التي تضعها الشركات الدارسة، فهذه من مصلحتها دائماً المبالغة في تقدير التكاليف لأنها تتقاضى نسبة مئوية من التكلفة التقديرية، وكلما رفعت التكلفة ارتفعت حصتها، وهذا ما بات تقليداً ثابتاً في القطاع الإنشائي عموماً.

فضاءات فساد

إذاً قانون العقود والمناقصات أبقى السقوف مفتوحة لتلاعب العارضين وتكافلهم مع “شركائهم” داخل المؤسسات العامة، إن كان موظف ديوان أو رئيس لجنة فض عروض وأعضاءها، أو معدّي دفتر الشروط الذي غالباً ما يُفصّل على قياس عارضين بعينهم وليس العكس.

وهذا ما يجري في أكبر المشاريع كما يجري في أصغرها، حتى لو كان على صعيد لجان المشتريات التي يطلب منها شراء تجهيزات ومستلزمات، بعد مقارنة ثلاثة عروض، غالباً تكون مقدمة من عارض واحد، ما يعني أن فوز أي منها فوز له، بما أن صاحب العروض الثلاثة أو بدقة صاحب العرض الأقل، والعرضان الآخران خلبيان جرت “الاستعانة بصديق” لتأمينهما شكلياً أو خلبياً!!.

من هنا نصل إلى استنتاج أن ما يُدفع من تكاليف لإنجاز مشاريع كبرى أو صغرى أو لشراء معدات وآليات، وبموجب قوانين ونصوص صريحة، يساوي أضعاف ما يجب أن يُدفع في الواقع كتكاليف حقيقية، وهذه الأضعاف هي أرقام ليست “بالملليم” أو بضع ليرات أو آلاف، وإنما بالملايين الكثيرة، ولو جمعنا الرقم لوصل إلى نسبة كبيرة من إجمالي ما ينفق من موازنات مؤسساتنا الاستثمارية، بل حتى من نفقاتها الجارية، ولن نجازف نحن ونطلق نسبة تقديرية، لأن المطلوب هنا الدقة، والدقة نعتقد أنها من مهام أروقة قرار تنفيذية متقدمة يجب أن تفرد حيزاً من اهتمامها لقراءة تفاصيل وضع كهذا، ومن ثم معالجته لأن بقاءه دون معالجة مشكلة كبيرة.

ملاحق ارتكاب

ما عرضناه مشهد، وننتقل الآن إلى مشهد ثانٍ وهو ملاحق العقود التي تبدو بحد ذاتها مشكلة بل معضلة، وهو بوابة واسعة من بوابات الفساد، علت مؤخراً بعض الأصوات التنفيذية مطالبة بإغلاقها وإلغائها.

فصلاحيات مجالس إدارات المؤسسات صاحبة المشروع محددة من حيث المصادقة على قيم العقود، إذ تنحصر صلاحية إدارات المؤسسات الاقتصادية، التي تكون قيمتها دون 10 ملايين ليرة، بعدها تصبح صلاحية الوزير وتكون 25 مليون ليرة للنفقة الجارية و50 مليون للنفقة الاستثمارية، والعقود التي تكون قيمتها أكثر من هذا الرقم تُحال إلى مجلس الوزراء للتصديق ويكون ذلك من صلاحيات اللجنة الاقتصادية في رئاسة مجلس الوزراء أو لجنة العقود.

وما يحصل أنه يتم تفصيل الدراسة بعناية فائقة لتتناسب مع سقوف كهذه، وبالطبع تكون غير كافية لإتمام المشروع، فتأتي العقود اللاحقة أو ملاحق العقود التي تصبح أمراً واقعاً لإكمال تنفيذ المشروع.

وغالباً تكون الحجة أن الدراسة غير واقعية، وهو ما تسبب بالملاحق وما تسببه من إشكالات، متأتية من أن الملاحق تعامل معاملة العقود لناحية جهة التصديق تبعاً لقيمة العقد، بينما كان ذلك في السابق من مهام رئاسة مجلس الوزراء أو مجلس الدولة.

ونكرر: كل شيء يحصل هنا بقانون، أي ربما يملك أحد محاسبة الفاعلين مهما توالت وتكاثفت الشكوك وحتى الأدلة التي لن تكون دامغة.

صيّادو الفرص

ومن هذا المشهد نمضي إلى بوابة خلل أخرى، وهي المتعهد الثانوي الذي تدخله شركات القطاع العام الإنشائي، على خط تنفيذ مشروعاتها، بعد فوزها بعقود تنفيذ مشروعات كبرى، تجازف بالخسارة فيها، زعماً أنها تسعى لتأمين جبهات عمل لعمالها ولو بخسارة، ورغم البلاغات الصادرة عن رئاسة مجلس الوزراء التي تحدد النسبة الممكنة لدخول المتعهد الثانوي على خط التنفيذ بـ 10 % من إجمالي قيمة العقد إلا أن ما يحصل هو العكس، فغالباً لا يبقى للشركة العامة المنفذة أكثر من 10 %، أي تكون حصة المتعهد الثانوي 90 % من إجمالي قيمة العقد.

أكثر من ذلك فإن بعض شركات القطاع العام الإنشائي “تسخّر” آلياتها ومعداتها في تنفيذ مشروع بعد أن تعهد به إلى المتعهد الثانوي، وطبعاً كل ذلك ليس “ببلاش” بل بأجر مجهول يتم الاتفاق عليه بعيداً عن الصخب وآذان المتنصتين.

الخلاصة أن الشركة العامة تكون واجهة لمتعهد هو سينفذ بعقود ثانوية تنبثق عن العقد الأم، أي المشكلة ليست ملاحق العقود، بل المتعهد الثانوي الذي تسخّر الشركة نفسها لخدمته إدارة وبالتالي إمكانات وآليات، وعند حصول تأخير ما يستوجب الغرامة وحجز تأمينات وما إلى ذلك، أي تنفيذ الشرط الجزائي جراء التأخير، تأتي المبررات مسطرة بأقلام مدير الشركة العامة، وغالباً تكون المبررات مقبولة في الأروقة الرسمية لأنها مذيلة بتوقيع مدير مؤسسة أو شركة عامة!!.

بوابات الوجع

ما أوردناه ليس تهيؤات أو رؤى في لحظات نوم وغفلة، بل وقائع يعلمها جيداً المتابعون لبعض التفاصيل، ويعلم أضعاف أضعافها، الممارسون في مضمار كهذا، أي هي صور واقعية لا بد من وضع حدود لها وبقانون أيضاً.

ونعتقد أن الاستعلام عن تكاليف المشروعات لم يعد صعباً في ظل وجود وسائل الاتصال المتطورة، وشبكة الإنترنت، لذا قد يكون من المفيد أن يجري الاستعلام عن الأسعار والتكاليف ووضع حد أعلى لتكلفة المشروع المراد تنفيذه، لا يمكن تجاوزه، بل لا بأس أن يصار إلى عرض المشروع مع تكلفته الدقيقة وطرحه للتنفيذ واستبعاد عامل السعر من المنافسة، وترك معايير الفوز لمسائل أخرى تخص منشأ التجهيزات وجودتها.

الأمر ذاته يمكن سحبه على آلية عمل لجان المشتريات، فهذه اللجان تشتري من السوق المحلية، وأسعار السوق معلومة ومتاحة، ولا تحتاج إلى تبصير وتنجيم لمعرفتها.

أما ما يخص ملاحق العقود، فهذه موضة يجب أن تبطل، وبوابة استنزاف يجب أن تغلق بأسرع وقت ممكن، ويعاد العمل بالتصديق في رئاسة الوزراء أو مجلس الدولة، أي سحب الصلاحيات من الإدارات حتى لو كانت النتائج أن نصل إلى حالة عزوف عن الإقبال على تولي موقع مدير عام في مؤسساتنا.

وبقي المتعهد الثانوي، “بدعة” لا بد من معالجتها، لأنها حلت القطاع الخاص محل القطاع العام، حتى في العطاءات التي يفوز بها الأخير بحجة تشغيل عمالته، كما لا بد من محاسبة أولئك الذين يزجون بآليات شركاتهم في خدمة المتعهد “الشريك” الذي ينفذ مشاريعهم، لأن أجور هذه الآليات تشكل غلة يسيل لها لعاب حتى من عُرف عنهم أن لعابهم لا يسيل بسهولة.

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]