الليبرالية الحديثة بين ضرب الهوية والنسيج المجتمعي.. والافتقار الى الاستدامة

كتب المحامي قيس الكفري:
إن الغرب ومنذ زمن ليس بقليل وبجهود حثيثة لا تنقطع يعمل على الترويج لنموذج الليبرالية الحديثة كمثال للتقدم وكنموذج سياسي واقتصادي يتبنى فكرة الحرية الشاملة، ويؤمن بتحقيق التقدم والازدهار عبر التحرر من التدخل الحكومي والتقاليد الاجتماعية، ويعد بمزيد من الحريات وتمكين الحرية المطلقة للفرد.
ولكن الفحص النقدي البسيط يكشف أن هذا النموذج عوضاً عن ما يحمله من ضرب للهوية الوطنية والانسانية واستهداف مباشر للنسج الاجتماعية، يفتقر إلى الاستدامة المطلوبة لتعزيز الرفاه المجتمعي على المدى الطويل.
وبالتعمق أكثر يصبح من الواضح أن التركيز المفرط على الحرية غير المقيدة يتجاهل عوامل أساسية في بناء المجتمع مثل المسؤولية الاجتماعية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتحقيق التوازن بين الحرية الفردية والمصلحة العامة، عوضاً عن أن مروجي هذا النموذج ومتبنيه انتقائيون في الحقوق والحريات التي يرون أنها يجب أن تحظى بالحماية، حيث يتم تجاهل العديد من القضايا الاجتماعية والثقافية التي تؤثر على حياة الأفراد وتعزز العدالة الاجتماعية، وينصب تركيزهم على الحرية الفردية والاختيار الشخصي.
إن هذه النظرية قائمة في جوهرها على تجاهل أهمية الهويات الوطنية والإنسانية، وتجاهل أهمية التراث الثقافي والقيم المشتركة التي تشكل المجتمعات، وتدفع باتجاه ما يسمونه “تحقيق تجانس عالمي” يهدد بتقويض الشعور والانتماء الوطني، ويسعى لتدمير منظومة العادات والتقاليد والقيم الأخلاقية الصحية الموروثة، للوصول إلى دمج المجتمعات بطريقة مشوهة ومجردة من هويتها، وإضعاف البوصلة الأخلاقية التي توجه الأفراد والمجتمعات، مما يؤدي إلى الانعزال والتشرذم وانهيار الروابط المجتمعية، وهدم مؤسسة الأسرة التي تعتبر حجر الزاوية في المجتمع، من خلال تقويض القيم وبيئة التنشئة التي توفرها الأسرة التقليدية، وإهمال دور الأسرة في نقل القيم والأخلاق.
نموذج الحرية العالمي بتركيزه الكبير على الحقوق الفردية والحريات الشخصية، وإعطاء الأولوية للرغبات الفردية دون النظر إلى التأثير الجماعي، يعزز عدم المساواة وتآكل النسيج الاجتماعي، بينما تتطلب الاستدامة الحقيقية تحقيق التوازن بين الحريات الشخصية والشعور بالواجب تجاه رفاهية المجتمع ككل، كما يعزز التفاوتات الاقتصادية ويؤدي إلى تفاقم الفوارق الاجتماعية، حيث أن السعي غير المقيد للثروة والأرباح يؤدي حكماً إلى ممارسات استغلالية، وتوسيع فجوة الثروة وتهميش المجتمعات الضعيفة، في حين يستلزم النموذج المستدام توزيعاً منصفاً للموارد والفرص لضمان مجتمع أكثر عدلاً وشمولية.
إن السعي نحو مجتمع عالمي متناغم لا ينبغي أن يأتي على حساب التنوع الثقافي، والتراث الجماعي، والدور الحيوي الذي تلعبه الأسرة في تنشئة الأجيال، بل يجب تحقيق التوازن بين التقدم والمحافظة، واحترام القيمة الجوهرية للعادات والتقاليد والروابط الأسرية، والعمل من أجل مجتمع متوازن يحتضن الحريات الفردية والقيم المشتركة التي توحدنا.

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]