الإصلاح بـ «الترقيع»… النموذج السوري الخاص في التغيير الاقتصادي والإداري

يعدّ التغيير بمفهومه العام والواسع حالة طبيعية في الأنظمة كلها، سواء كانت أنظمة طبيعية، أم أنظمة بشرية، فالتغيير يكاد يكون القانون الثابت الوحيد في المنظومات كافة، وهذا التغيير هو مصدر الحركة والتطور في تلك النظم الطبيعية أو الاجتماعية، وكل تغيير يحدث إنما يحدث متأثراً بالبيئة التي يقع فيها ومؤثراً فيها من جديد، وبالطبع فإن التغيير إما يكون تطورياً، أي يحدث بشكل متراكم وبطيء عبر الزمن، وإما أن يكون فجائياً، أي يحدث عبر صدمة أو طفرة، ومهما كانت طريقة التغيير فإن النتيجة هي علاقات جديدة أو نظم جديدة، أي باختصار «بنية جديدة».

تخضع النظم الاقتصادية والإدارية عادة لعمليات تغيير مستمرة، بهدف تغير البنى الاقتصادية والإدارية كحصيلة نهائية لتلك العملية، وغالباً ما تسمى تلك العملية التغييرية بأنها «إصلاح» كأن يطلق عليها اسم «الإصلاح الاقتصادي» أو «الإصلاح الإداري». وإن كان التغيير في النظم الطبيعية يحدث بصورة عفوية وربما بدون هدف، فإن التغيير في النظم الاقتصادية والإدارية إنما يحدث لتحقيق هدف محدد منه، أي أنه «غائي» له غاية معينة، وانطلاقاً من تلك الغائية كان لا بد من تفسير كل عملية تغيير اقتصادي أو إداري تحدث في المؤسسات الاقتصادية والإدارات العامة، وتعليل الغاية منها، أي لماذا حدثت؟ وما هو الهدف منها؟

لا يبتعد الاقتصاد السوري عن ذلك الكلام أبداً، فالنظام الاقتصادي والإداري السوري كان وما زال يخضع لعمليات تغيير مستمرة، أو ما يرغب البعض بتسميته بـ»عمليات إصلاح»، وقد ارتكز ذلك التغيير على تغيير «أشخاص» وتغيير «تشريعات» وتغيير «مؤسسات»، ففي كل مدة زمنية يحدث هناك ما يشبه حركة الأمواج البحرية في عملية التغيير تلك، إذ تحدث حالة «مد تغييري» يرافقها خطاب إصلاحي حكومي عن ضرورة الحاجة إلى التغيير، وبأن وقته قد حان،  يتبعها حالة «كمون قصير»، ريثما يتم عملية الاستبدال المقررة وتحديداً بين الأشخاص، ومن ثم حالة «جزر تغييري» تنحسر فيها التغييرات بشكل واضح، لندخل بعدها في حالة «كمون طويل» تكاد تتوقف فيها التغييرات زمناً لتتراكم خلاله الحاجة إلى التغيير مجدداً.

 إلا أن ذلك التغيير حتى الآن، وبكل ما أنجز منه في المؤسسات الاقتصادية والإدارية، لم يرتق بالاقتصاد والإدارة في سورية إلى المستوى المتطور والحداثي، أي أنه وباختصار شديد لم يغير في بنية المؤسسات القائمة، فمهما توالت عمليات التغيير على مؤسسة ما، نجد أنها بعد عشرات السنين تكاد تكون ذاتها، أو مضافاً إليها بعض التعديلات الشكلية الطفيفة، فهل المشكلة في طريقة التغيير ذاتها؟ أم أن المشكلة في مطارح التغيير؟ أي في «الأشخاص والتشريعات والمؤسسات» معاً؟ ولماذا لم يتمكن الاقتصاد السوري حتى الآن من إنجاز مشروع تغيير إصلاحي حقيقي؟ أعتقد أنه للإجابة عن هذه التساؤلات لا بد من التوقف عند النقاط الأساسية الآتية؛ والتي كانت عائقاً لحدوث تغيير حقيقي في سورية، أو التي كانت عبارة عن مجموعة من المتناقضات التي لم تحل حتى الآن:

1 – إن التغيير فلسفة ورؤيا متكاملة، وليس مجرد عمليات «ترقيع إداري» لبعض المراكز الوظيفية، وهو عملية مستمرة ودائمة ويجب ألا تحدث على شكل موجات أو صدمات ومن ثم تتوقف فجأة لفترات طويلة، كما أنه عملية شاملة، لا بد وأن تشمل أجزاء كبيرة من المنظومة المراد تغييرها، لا أن تقتصر على أجزاء منها، لكن الذي يحدث هو أنه يتم التركيز على التغيير في بعض الأجزاء في المنظومة من دون الكثير غيرها، ولمرة واحدة فقط، ودون استمرارية، الأمر الذي لا يعطي زخماً للعملية التغييرية، فتغيير مدير عام لمؤسسة عامة يتبع لها أكثر من 20 شركة تعاني أغلبها من المشاكل، لن يحدث فرقاً كثيراً في تلك العملية، فنهاك 20 مدير شركة تابع له و20 معاون مدير و20 مدير تجاري و20 مدير مالي و غيرهم العشرات ممن يجب تغييرهم أيضاً كي نضمن نجاح العملية في كامل السلسلة.

2 –    غالباُ ما يتم تغيير أشخاص في  المراكز الوظيفية العليا، «رئيس وزراء، نائب رئيس وزراء، وزير، معاون وزير، رئيس هيئة، حاكم مصرف مركزي، رئيس جامعة»، وغالباً ما يكون أولئك الأشخاص من أصحاب الكفاءات العلمية والعملية فعلاً، لكن ما يحدث أن بقية أجزاء المنظومة الإدارية تبقى على حالها من دون تغيير، وهي غالباً ما تعج بالفساد والتحالفات الشخصية وشبكات المصالح الخفية المتبادلة، والتي تكون قادرة إما على وقف أي عملية إصلاحية، أو إبطائها على الأقل، وهذا ما يعرف باسم «مقاومة التغيير» في المؤسسات، وهنا تماماً تفقد الكفاءة العلمية والإدارية فعاليتها في إنجاز التغيير. فالشخص ذاته في هذه الحالة ليس فاشلاً أو عاجزاً كحالة فردية، لكن مكونات المنظومة بأكملها هي التي أفشلته، وهذا ما يشبه تماماً استبدال قطعة واحدة جديدة في محرك مهترئ بشكل كامل وقديم.

3 – تغيير الأشخاص في أي منظومة إدارية أو اقتصادية هو عملية أسرع بكثير من تغيير البيئة الإدارية والقانونية المحيطة بعمل ذلك الشخص، فتغيير وزير مثلاً هو أسهل وأسرع بكثير من تغيير الهيكل التنظيمي أو النظام الداخلي للوزارة، أو من تغيير التشريعات الناظمة لعمل تلك الوزارة، وغالباً ما تقيد تلك البيئة المتقادمة في أغلب الأحيان عمل الأشخاص الجدد، وهنا يدخل أولئك الأشخاص إما في حالة صراع لتغيير تلك البيئة والتي تحتاج سلسلة طويلة جداً من الإجراءات البيروقراطية، أو أنهم يدخلون في حالة استجابة ورضوخ لها، فتبقى المنظومة تعمل وفق آلياتها ذاتها، وتدخل مجدداً في حالة استعصاء إداري.

4 –    غالباً لا يتم تقديم تفسير واضح ومقنع وعلني للمجتمع حول الأشخاص الذين يتم تغييرهم، لذلك تظهر تلك التغييرات أمام المجتمع على أنها ارتجالية وغير موضوعية، وتترك المجتمع في فوضى التفسيرات والتأويلات، وأحياناً الاتهامات حول أسباب التغيير، لا حتى أن الكثير من أفراد المنظومة الإدارية نفسها لا يعرفون لماذا حدث ذلك التغيير، وهم يتلقونه مثل غيرهم من خارج المنظومة، فما هي الأسس الموضوعية أو المعايير التي تم على أساسها استبدال شخص بشخص آخر؟ فهل أخفق هذا الشخص في إدارة المؤسسة؟ وما هي معايير تقييم ذلك الإخفاق؟ أم هل كان ذلك الشخص فاسداً؟ وكيف تم توثيق فساده ومحاسبته عليه؟ إن وضوح معايير التغيير هي الشيء الوحيد الذي يعطي مصداقية لتلك الآلية.

5 – غالباً ما ينتظر الأشخاص الجدد «تعليمات» للإصلاح أو للتغير الداخلي ضمن مؤسساتهم، وذلك على عكس المنطق الإصلاحي الذي يجب أن يكون فيه «المصلحون الجدد» مبادرين لا متلقين للمبادرة، فأي تنظيم إداري أو اقتصادي في سورية يحتاج إلى الكثير من العمليات الإصلاحية ولا داعي لانتظار «تعليمات» من جهات أعلى، للبدء بتلك العمليات، لكن ما يشاهد غالباً هو إحداث تغييرات سطحية لا تغييرات عميقة تطال جوهر المنظومة، وغالباً ما ينتظر الوزراء توجيهات رئيس الوزراء، وينتظر المدراء توجيه الوزراء وهكذا، وعندما تأتي تلك التوجيهات ينتاب الجميع ردة فعل إدارية مدعومة من تلك التوجيهات، فتبدأ حالة من الإصلاح العفوي غير المنظم الناجم عن الاستجابة غير المدروسة لتلك التوجهات بهدف استيعابها والظهور بمظهر المصلحين الغيورين على المصلحة الوطنية العامة.

أيهم أسد – الأيام السورية

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]