الملف الذي “أرق” المؤسسات الحكوميّة يبقى متعنتاً على رفوف التأجيل..

الخبير السوري:

إنه لمن المريب حقاً حالة عدم الحسم المزمنة تجاه المعالجة الفعلية والجذرية لملف التشابكات المالية، واقتصار التعاطي مع هذا الملف بإصدار قانون ينهي هذه التشابكات على مبدأ “عفى الله عما مضى”، دونما إلزام كل جهة بتسديد ما عليها من مستحقات مالية وعدم التهاون مع هذه المسألة مهما كان الثمن حتى لا تتكرر كما جرت العادة..!. إذ نعتقد أن الاقتصار على حل هذه التشابكات من خلال إصدار قانون –بين الفينة والأخرى- يفض المديونيات المتبادلة بين جهات القطاع العام، قد ينذر بأزمات مالية لمؤسسات إستراتيجية لها وزنها في الخارطة الاقتصادية والخدمية، كمؤسسة التأمينات الاجتماعية التي وصلت ديونها المترتبة لها على الجهات العامة إلى أكثر من 224 مليار ليرة، وكذلك الأمر بالنسبة للمؤسسة العامة للتجارة الخارجية التي بلغت مديونيتها أكثر من 35 ملياراً وفقاً لبعض التقارير التي حصلت “البعث” على نسخة منها، وأيضاً نحو 600 مليار لصالح المؤسسة العامة لنقل وتوزيع الطاقة الكهربائية وفقاً لبعض التقديرات..!.

تكريس

ولعل خير وسيلة لمكافحة هذه التشابكات هي تكريس المحاسبة الفعلية نظراً لأن هذا الوضع المتشابك لا يخلو من الفساد، ولاسيما من جهة تواطؤ البعض من الدائن مع البعض من المديون، وبالتالي فمن الضروري حسم هذا الملف لاعتبارات، أولها يتعلق بإعطاء زخم لعمل هذه الجهات، وإطلاق نشاطها لمنافسة القطاع الخاص، وثانيها له علاقة بإظهار حقيقة الخلل الحاصل في أداء بعض الجهات المدانة وتقصيرها وعدم خلط الأوراق، ليذهب عمل الصالح بالطالح، أي أن تحمل الجهة الرابحة زميلتها الخاسرة وتضيع بالنهاية محاسبة المقصر..!.

وبالعودة إلى ما بدأناه من حديث حول مؤسسة التأمينات التي يراهن على دورها في الاستثمار في عدد من القطاعات الاقتصادية والخدمية، فإن مستوى ديونها قد ينعكس بالنتيجة على خططها الاستثمارية التي تصب في النهاية في خدمة الخزينة العامة للدولة، والأهم من ذلك أن مؤسسة التأمينات تعتبر الضامن الاجتماعي للمتقاعدين، وهي تضطلع نهاية كل شهر بمهمة تأمين رواتبهم المستحقة، لذلك يفترض أن تكون بمنأى عن أية إشكالية مالية مهما صغرت أو كبرت. أما بالنسبة للمؤسسة العامة للتجارة الخارجية والتي من المفروض أنها الذراع الأقوى حالياً لوزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية، لا تستطيع القيام بدورها على نطاق واسع في السوق وكسر احتكار المواد الأساسية نظراً لعدم استردادها ديونها آنفة الذكر.

أرباح وهمية

يقودنا الخوض في غمار ملف التشابكات المالية إلى الحديث عن تقييم أداء مؤسسات وشركات القطاع العام، التي ما فتئ بعضها يتحايل عبر الحسابات المالية لإظهار ربحية وهمية لهذه المؤسسة أو تلك الشركة، وهنا يتبيّن لنا ضرورة مراجعة ميزانيات المؤسسات والشركات بشكل أساسي لمعرفة قيمة أرباحها الحقيقية، حيث إن بعض المدراء العامين يتباهى بربحية مؤسساتهم غير الرابحة بالأصل وفق حسابات الميزانية الختامية للمؤسسة، على اعتبار أن نفقاتها أكبر من إيراداتها، فعلى سبيل المثال يورد بعض المدراء أمام رؤسائهم أن قيمة شراء سلعة ما بلغ 10 ملايين ليرة سورية، وتم بيعها بـ 12 مليوناً، أي أن قيمة الربح الصافي من هذه العملية هو 2 مليون، لكنهم في حقيقة الأمر يخفون ما يلحق بها من نفقات إدارية ورواتب وأجور، فتكون المؤسسة في نهاية المطاف خاسرة لدى حساب الميزانية الختامية لها.

معاينة

ويوضح الاقتصادي الدكتور زكوان قريط أنه لدى معاينة مستوى أداء إحدى شركات القطاع العام يجب حساب قيمة موجوداتها وأصولها الثابتة، خاصة الأرض والتي هي في حالة ارتفاع دائم، إلى جانب حساب المصاريف المترتبة عليها نتيجة التشابكات المالية بينها وبين الشركات العامة الأخرى وتصفيتها كفواتير الكهرباء والهاتف وغيرها من التراكمات، حتى نستطيع الوقوف على الوضع المالي لهذه الشركات لنرى إذا كانت خاسرة أو رابحة وبالتالي يمكن قياس أدائها بشكل دقيق.

وركز قريط على أهمية قياس الأداء أولاً بأول وبشكل مستمر، وذلك من خلال تفعيل دور المواطن بحيث يعبر عن مستوى رضاه عما يقدم له من خدمات، واعتماد أساليب تواصل معه كاستطلاعات الرأي وهنا يجب على الإعلام أن يلعب دوراً كبيراً فيها وعليه أن يكون شريكاً مهماً وإستراتيجياً في هذه العملية.

وأضاف قريط: إن العامل الثاني لقياس الأداء يتمثل بوجود جهة رقابية مستقلة ذات صلاحيات واسعة جداً وقادرة على محاسبة المقصر الفاسد، ومكافأة المجد المثابر، كأن تُحدَث هيئة عليا لقياس الأداء الحكومي تقوم بمراقبة كل مفاصل عمل القطاع العام، ومحاسبة كل من لا يُقوّم أداءه بعد إعادة هيكلتها، لا أن يتم اللجوء إلى بيع المؤسسات الاقتصادية الخاسرة وإلحاق موظفيها بجهات إدارية أخرى تحت ذريعة الحفاظ على حقوقهم، فالأجدى إما البحث عن مشروع آخر يحقق إيرادات للخزينة العامة للدولة، أو تطوير العمل بكل حيثياته وتفاصيله بدءاً من الكادر البشري، مروراً بالآلات، وانتهاءً بالتسويق.

في حين يرى البعض أن الحل الأمثل لتحسين مستوى الأداء يتمثل بضرورة تعديل مراسيم إحداث هذه المؤسسات بما يتماشى مع الواقع الراهن والمنافسة الحقيقية مع القطاع الخاص، بحيث تمنح المؤسسات الاقتصادية التجارية والصناعية الاستقلالية في ميزانياتها، وأن تتعامل بمنطق الربح والخسارة مثلها مثل أي تاجر، لأن استمرار العمل بالأنظمة الحالية في ظل المنافسة الشديدة للقطاعات الأخرى يزيد من تراجع أدائها ويوقعها في مآزق مالية لا يمكن أن تستمر.

حسن النابلسي

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]