أقوى حلفاء لأخطر أعداء؟!…بقلم:ناظم عيد

لا نجيد نحن السوريين “الغناء في مجالس العزاء”، أو على الأرجح معظمنا لا يحبذ التورّط متلبساً في إسقاطات مثل هذه الخصلة البغيضة، فثمّة أدبيات تنطوي تحت عنوان “التراحم” تشكّل بروتوكولاً اجتماعياً بيننا، نحرص عادةً على توخّي مداراته بقدرٍ عالٍ من الحذر، وربما هذا ما كان قوام سرّ صمودنا وصبرنا وتحمّلنا لفصول المحنة القاسية منذ سنوات ست.
فأزيز رصاص حرب استهدافنا، ورائحة الدم، نأيا جانباً بجملة من القضايا المتصلة بأساسيات ذات بعد خدمي واستهلاكي، فالهم الوطني أكبر وحجم الحرب أخطر، هذه أولويات رتبت نفسها ذاتياً في أذهاننا منذ بدايات الأزمة.
إلّا أن تحوّلاً لافتاً طرأ على المزاج العام منذ أشهرٍ قليلة، بشأن تفاصيل اليوميات المعيشيّة، أي “صحوة مطلبية” تستوجب الرصد والاهتمام، سيما وأن الحرب هي هي، والحصار هو هو، وارتفاع أسعار الخدمات والسلع بات عُرفاً سوقياً سلّمنا به منذ البدايات وكابرنا على لفحاته، بما أنه تقليد من التقاليد المرافقة للحروب، فما الذي تغيّر واستوجب صراخاً طالما همسنا مفرداته همسا؟..
الواقع أن أجواء التفاؤل التي شاعت في الأشهر الستة الأخيرة، على قاعدة الانتصارات التي حققناها عسكرياً وسياسياً، والتقدّم مضطرد الخطى على طريق المصالحات، أنتجت حالة من الإلحاح في طلب الاسترخاء، وأطلقت العنان لعودة ظهور احتياجات كانت متنحية تحت وطأة إملاءات الظرف الصعب، حيث من عادة “الفزع أن يُشتت الوجع”، وهذه حقيقة وليست مجرد تلوين بديعي ولعب على جماليات اللغة.
وقد تكون المفارقات التي أرخت بثقلها بيننا على شكل تباينات صارخة في معدلات الإنفاق، واكتظاظ السلع الترفيّة في أسواقنا، هي ما افتعل رضّاً معنوياً عميقاً في نفوس من كانوا أكثر تأثراً بلفحات الأزمة، لكن ثمة ملاحظة لا بد من البوح بها هنا في مثل هذه المناسبة، وهي أننا وكما كابرنا على الوجع، فإننا تعنتنا في الاستجابة لخصوصيات المرحلة وحساسيتها، والكثير منّا اليوم يخوض مواجهة مع ذاته، رافضاً الاعتراف بأن عليه تغيير بعض عاداته الاستهلاكية نزولاً عند استحقاقات وآثار موجعة للمواجهة مع عدو غير تقليدي متبدّل متلوّن، على التوازي مع رفض قاطع لاجتراح حلول بسيطة للمشكلات المعيشية بأدوات متاحة وغير معقّدة، فهل من الحذاقة وحسن التدبير مثلاً، أن يشكو الريفيون في قرانا من ارتفاع أسعار البيض والحليب والمنتجات الزراعية في مواسمها، وأراضيهم متروكة كشاهد إثبات على ارتكاب صريح يجري بحق أهم وأسخى وسيلة إنتاج في بلدنا؟.
ليس هذا موضوعنا بالتحديد، لكنه كان من الحكمة أن نحوّل أزمتنا إلى درس مدفوع الثمن، فقد دفعنا الكثير وما زلنا نسدد ثمناً باهظاً لفاتورة “استشفاء” بلدنا من وباء الإرهاب، وتوقّعنا أن تكون السنوات العجاف فسحة حقيقية للعودة الجادة إلى البناء واستنهاض مواردنا الكامنة أو المدفونة تحت ركام سنوات الرخاء والنزعات الاستهلاكية التي استحكمت بنا، وكان لـ “أبوية الدولة” دوراً كبيراً في ترسيخها، وها نحن نكابد للتخلص منها، لكن ثمة بوادر مُحبطة تنذر بأننا لن نترك حيزاً لتطبيقات مصطلح “فضائل الأزمة”، كما كان لدى من جرّبوا ومرّوا بأزماتٍ مشابهة؟!.
لم تنته الحرب بعد لنستعجل الرجعة إلى زمن الرخاء، فمن خطط لاستهدافنا، اجتهد ويجتهد فعلاً لتكون “حرب مئة عامٍ” جديدة، وعندما أعلينا أصوات الشكوى من تقنين الكهرباء، انهمرت حمم الإرهاب على معملي الغاز في حمص وخسرنا 6 آلاف متر مكعب في اليوم من إمدادات محطات التوليد.. فصمتنا؟!.
إننا في خضم مواجهة طويلة الأجل، وإن كنا انتصرنا بصبرنا، علينا ألا نُحبط بنفاده، ولا نؤخذ بالكم الهائل من الطاقات السلبية التي ينفثها كُثرٌ في وجهنا عن قصد أو غير قصد، ولو كان بعضهم حكوميون في مواقع قرار، فنكون أقوى الحلفاء لأخطر الأعداء!!.

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]