القطاع التعاوني ضحية ارتكابات عن سابق إصرار.. والمشترك أُسقط ولم يسقط.. والاستدراك ينتظر القرار وليس الخيار

 

 

منذ خمسة عقود وسورية تتجه نحو إيلاء تطبيقات مفهوم التعددية الاقتصادية اهتماماً مركزاً ودعمت على التوازي القطاعات (العام والتعاوني والمشترك والخاص)، والتركيز على الأولوية بين هذه القطاعات لم يترافق مع إسقاط دور أي قطاع منها أو التقليل من أهميته، وقد أولت السلطات الرسمية أهمية كبيرة للقطاع التعاوني، وأعطته المرتبة الثانية من بين القطاعات الأربعة بعد القطاع العام، وقد تجلى النشاط التعاوني بأبهى صوره في المجال الزراعي، الميدان الأرحب لنشاط نسبة كبيرة من المواطنين السوريين، حيث تم إحداث المزيد من الجمعيات الفلاحية التعاونية المتنوعة الأداء والنشاط، حتى غطت جميع أراضي القطر، ريفاً ومدينة، وبادية وحاضرة، فضلاً عن العديد من الجمعيات التعاونية في الميادين الأخرى وخاصة ما كان منها ذا نشاط إنتاجي أو تسويقي أو تمويني، وقد كان لبعض الجمعيات أكثر من نشاط، بدليل أن الجمعيات الفلاحية حمَلَت اسم الجمعية الفلاحية التعاونية المتعددة الأغراض، وأيضاً انصبت اهتمامات فاعلة ومجدية باتجاه التعاون السكني، وقد لاقت جميع هذه التعاونيات إقبالاً شعبياً كبيراً، حيث انتسب لكل جمعية تعاونية المئات وبعضها الآلاف تبعاً لمجال عمل كل جمعية وفي ضوء حجم منطقتها السكانية والعملية واتساع رقعتها السكنية.

 

ترهل

لفترة زمنية خلت كان لجميع هذه التعاونيات دور ملحوظ وفاعل، ولكن النشاط المتنامي لعدد كبير منها أعقبه (بعد وصوله إلى الذروة في نهاية الثمانينيات) الكثير من الترهل والانحدار، حيث شهدت السنوات العشرون الأخيرة قصوراً متتابعاً في أداء العديد من التعاونيات على اختلاف وتعدّد أنشطتها ومهامها، أكان ذلك نتيجة تقصير أو فساد العاملين على إداراتها أو قصور المنتسبين إليها أو غياب أو إهمال الجهات الرسمية المشرفة عليها، أو سوء تعامل بقية الجهات الأخرى المتعاملة معها، وعلى الأغلب ما من جهة إلا كان لها دور سلبي في ذلك بشكل أو بآخر، فكثير من إدارات هذه الجمعيات التعاونية والجهات الأعلى المعنية أو المتدخلة بعملها التي تعمل معها، عملت وفق أهواء أكثر مما عملت وفق أسس، إذ تجاهلت بل كثيراً ما استبعدت كلياً ما تنص عليه الأنظمة الداخلية والمحاسبية لهذه الجمعيات، وخصوصاً ما يخص دور الهيئات العامة في هذه الجمعيات، وما يخص التقيد بما ينص عليه النظام المحاسبي الواجب العمل به قانوناً، أكان ذلك فيما يتعلق بالمدخلات والمخرجات التي تخص الجمعيات الإنتاجية، أم فيما يتعلق بالمشتريات والمبيعات التي تخص الجمعيات التسويقية، أم بمدى التقيد بإعداد الميزانية وتوزيع مسارات الأرباح وفقاً للنصوص الصريحة، فيما يخص عمل الجمعيات التموينية التجارية الاستهلاكية، بل كثيراً ما عمدت العديد من الجهات المشرفة على عمل الجمعيات إلى توجيه الهيئات العامة لاتخاذ بعض القرارات التي تتعارض مع الأنظمة الداخلية، وكثيراً ما عمدت لاتخاذ قرارات باسم الهيئة العامة دون حضورها أو دون إجماعها على ذلك، تحت عنوان الاجتهادات التي ترغبها مجالس الإدارات، ومن يدور في أفلاكها بعيداً عما تنص عليه التشريعات والأصول المحاسبية، ولم يكن دور أجهزة الرقابة الداخلية والرقابات الأعلى أقل شأناً في التغاضي أو التغطية على مجمل المخالفات، فمعظم الرقابات الداخلية كانت مبعدة أو شريكة في كثير مما يجري من مخالفات، والحال نفسها فيما يخص دور الرقابات الرسمية الأعلى، ما تسبب في خلق حالة من اليأس لدى الكثير من الأعضاء وعزوفهم عن حضور الاجتماعات، ودفع لعقد الكثير من الاجتماعات بنصاب قليل أو دون اكتمال النصاب القانوني، وتسبب في تراكم الخلل والفساد لسنوات، وأوقع العديد من الجمعيات في عجز مالي، وأودى بالعديد منها إلى الهاوية والهلاك، والخروج من الساحة كلياً.

 

إفشال

لا يخفى على أحد ما عانى منه العديد من الجمعيات الفلاحية التعاونية من اقتصار دورها على سحب قروض لبعض أعضائها، وقيام بعض مجالس الإدارات بسحب قروض على أسماء العديد من الأعضاء دون علمهم وتوريطهم بمطالبات تسديد ما لم يقبضوه، ناهيك عما عانت منه هذه الجمعيات من تجاوزات أخرى في القيود والمستندات المالية، وخاصة ما يخص عمل المخازن الاستهلاكية التعاونية العائدة لبعض الجمعيات الفلاحية التعاونية، التي كان من المفترض بل المتوجب أن تكون نموذجاً يعمم على الجمعيات الفلاحية في جميع المحافظات، والغريب في الأمر أن بعض الجمعيات كان لها نشاط كبير ملحوظ لسنوات عديدة ومن المؤكد أنها قد حققت أرباحاً كبيرة جداً، ولكن هذه الأرباح لم تنعكس على منطقة عمل الجمعية ولا على الأعضاء المنتسبين إليها وفقاً لما تنص عليه الأنظمة، ولم يظهر في رصيدها المالي ما يتناسب من قريب أو بعيد مع ما كان بارزاً لها من نشاط، وبعد أن أنهكها الفساد اضمحل نشاطها بشكل كبير بل إن العديد منها خرج من الساحة تماماً، وكأن شيئاً لم يكن ولم يخطر ببال أحد العودة لما مضى من قيود هذه الجهات، رغم أن ذلك يقع ضمن مهام ودور مجالس الإدارات المتعاقبة على هذه الجمعيات، والجهات الأعلى المشرفة عليها، ولكن يندر أن عمل أحد لتحقيق ذلك, تحت حجة لا أريد أو لا نريد أو لا يريدون أن ننكش في الماضي، وسادت ثقافة: غطِّ على من سبقك تجد من يغطي عليك بعد رحيلك، فضلاً عن الخلل الذي انتاب بعض التعاونيات التسويقية والتموينية والتجارية العائدة للعديد من الجهات، وما أصاب الجمعية التعاونية الاستهلاكية (ذات النشاط التجاري) المنتشرة فروعها في جميع محافظات القطر لم يكن أقل شأناً، ناهيك عن كثير من الجمعيات المماثلة التي تم إحداثها لمصلحة بعض الجهات الإدارية أو الخدمية أو الإنتاجية أو النقابية (حتى إن بعض فروع الجمعية التعاونية الاستهلاكية لنقابة المعلمين، لم تخل من حالة فساد أو أكثر، هذا الميدان المفترض أن يكون من أنقى المجالات، لكون المعلمين بناة الأجيال).

 

سقوط

وأيضاً كان القطاع المشترك محط اهتمام كبير لدى الجهات الرسمية المسؤولة، حيث اعتبرته الركيزة الثالثة من ركائز الاقتصاد الوطني، وكان لبعض فعالياته نشاط ملحوظ، وكان مجمعاً على نجاح دوره، وفي طليعة هذه الفعاليات شركة الكرنك للنقل، التي كانت محط ثقة وتعامل المسافرين بين المحافظات السورية ومنها إلى بعض الأقطار العربية، وكانت جميع الرحلات تشهد ملاءة تامة لجميع المقاعد، وبحجز مسبق، ولكن هذه الشركة اختفت من الوجود واختفى ما كان لها من نشاط سياحي مترافق ومرتبط مع نشاطها في النقل، وبدلاً من تنشيط هذه الشركة ومثيلاتها وتكثيف الجهود لإحداث غيرها، انصبت الجهود باتجاه إلغائها كلياً (عمل وعمال) وتنشيط الشركات الخاصة للنقل لكبار التجار والرأسمال المحلي والقادم، وبتسهيلات وأفضليات وأجور وإعفاءات ضريبية لم يحصل عليها المواطنون العاديون، مالكو سيارات النقل الخاصة.

 

استدراك

لا جدال ولا خلاف عند جميع الوطنيين المهتمين بالشأن العام، في أن تنشيط القطاع الخاص حاجة وطنية ماسة، ولكن تنشيط القطاعات الأربعة معاً (العام والتعاوني والمشترك والخاص) بالتوازي فيما بينها، يحقق مبدأ التعددية الاقتصادية التي هي من صلب عقيدة ونهج البعث، وقد كان الفضل الأكبر للقائد الخالد حافظ الأسد الذي استذكر واستنهض وجذَّر هذا النهج، وكان وما زال من المفترض أن يكون المتحاورون للخروج من الأزمة (المؤامرة) التي يمر بها قطرنا، قد تطرقوا أو سيتطرقون مستقبلاً لأهمية استنهاض القطاع التعاوني والقطاع المشترك من جديد، نظراً لأهمية القطاع التعاوني في تحقيق المزيد من التشاركية بين المواطنين لما فيه من تجذير للُّحمة الاجتماعية الوطنية فالتشاركية نهج البعث فكراً ونضالاً، والقطاع التعاوني والقطاع المشترك هما النموذجان الأجدر بالاقتداء بهما تطبيقاً للتشاركية المنشودة في هذه الأيام، وخاصة أن القطاع التعاوني يحقق تشاركية متعددة الجوانب بين المجتمع الأهلي، والقطاع المشترك يحقق تشاركية متعددة بين المجتمع الأهلي (بنوعيه الشعبي ومن لديه مدخرات مالية) وأيضاً بين من يملكون طاقات مادية أكبر، وقدرات معرفية وفكرية من القطاع الخاص وبين الدولة، ما يجعل الحاجة ماسة للعودة بتروٍّ وتأنٍّ لمعرفة ما يعانيه هذان القطاعان من مشكلات، والتأسيس لإعادة تنشيط عملهما، ضماناً لتحقيق المنشود منهما منذ بداية إحداثهما، وخلال ذروة نشاطهما، والعودة بالمنحني باتجاه الذروة من جديد، ولنقطة أعلى من النقطة التي وصل لها سابقاً، ويجب ألا يغيب عن البال أهمية تكثيف العمل لتنشيط القطاع التعاوني في كل المجالات، إلا أنه يجب أن ينصب الاهتمام على استنهاض التعاون في القطاع الزراعي، لكون الجمعيات الفلاحية التعاونية منتشرة في جميع القرى، وما زالت تحمل اسم الجمعية الفلاحية التعاونية المتعددة الأغراض، ما يجعل تحقق إمكانية تنشيط دورها إنتاجياً وتسويقياً وتموينياً وتجارياً حاجة وطنية ماسة.

 

عبد اللطيف عباس شعبان

عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية

 

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]