اقتصاد السوق الاجتماعي بنسخته المعدَّلة يظهر في شوارعنا من نافذة بسطات الأرصفة…فرص عمل “دبِّر رأسك” أمر واقع ينتظر الشرعنة أو المنع..

 

 

خاص – الخبير السوري:

مع بداية كل أزمة تنتشر عشوائياً في أزقة وحارات دمشق- وغيرها من المدن- قبل شوارعها وساحاتها وأسواقها الرئيسية، وكأن موسم تكاثرها لا ينشط إلا عند الأزمات الاقتصادية، وموجات الجفاف عدا عن ارتفاع الأسعار. إنها ظاهرة “البسطات الطيارة” التي تفترش الأرصفة وأجزاءً من الشوارع، وواجهات المحال في الأسواق، دون رقيب أو حسيب، الأمر الذي بات يسبِّب أرقاً لدى المارّة قبل أصحاب الحوانيت، الذين لم يخفوا تذمّرهم من انتشارها اللافت.

أصحابها ليسوا إلا جوالين يبحثون عن وجود لهم في ظل اقتصاد السوق الاجتماعي، يقتاتون على عربات صغيرة وبسطات، ويمثلون شريحة ليست بالقليلة من أفراد المجتمع. فهم كغيرهم لا يُحصون بشكل رسمي ولا يخضعون للنظام الضريبي والإداري والتنظيمي، فالإحصائيات تقدر نسبتهم بـ 10 بالمئة من إجمالي القطاع غير المنظم، وبأكثر من 50 بالمئة من حجم السوق السلعية. واللافت، أن غير السوريين من روس وصينيين، بدؤوا ينضوون تحت لواء هذا النشاط الاقتصادي، ينعمون بفرصة عمل بعيدة عن الحكومة وقريبة من القطاع الخاص.

تحايل مشروع

فشل السياسات الحكومية الاقتصادية والاجتماعية المطبقة على مدى سنوات، واستيراد الوصفات الاقتصادية الجاهزة، مع تطنيش مقصود للجانب الاجتماعي واستحقاقاته، إضافة للأزمة الراهنة التي كانت”الشعرة التي قصمت…”عوامل شكّلت قاطبة موئلاً مناسباً لتفشي هذه الظاهرة. فالمواطن السوري اضطر لمواجهة صعوبة العيش وحده، وبعيداً عن دور الدولة الرعائي، الأمر الذي دفع الكثيرين منهم إلى التحايل على الزمن، والسعي كلٌ بمفرده لتأمين مورد الرزق الذي ما فتئ يغرّب وصاحبه مشرّق.

ظاهرة البسطات انتشرت منذ سنوات طويلة كنافذة بيع غير قانونية لدواع إنسانية واجتماعية،  رغم ملاقاة القائمين عليها الكثير من القمع والملاحقات التي انحسرت مع بدء الأحداث الحالية، والتي أظهرت فجأة تفهماً لدى الجهات المسؤولة عن مكافحة هذه الظاهرة، كفهم مفاجئ كان له أن يرى النور فيما مضى، ويسهم في إيجاد حل لهذه البسطات التي بدأت تأخذ منحىً عشوائياً في الانتشار، في الشوارع والمداخل والحارات والأزقة، وكأنها أسواق مُتنقلة لا يلزمها سوى غطاء من قماش يفرش على الأرض، أو شبك معدني تسطر عليه بضاعتها، التي تتسم خروجها على المواصفات والمقاييس، والتهرب الضريبي، والهروب من رقابة الدولة بكل أجهزتها وبعدم التسجيل في غرفتي الصناعة والتجارة.

تعايش آني

بات “التعايش الآني”، مع انتشار هذه العربات المتجولة أمام المحال التجارية وفي الأسواق الرئيسية، السمة الأبرز لهذا النوع من الأنشطة الاقتصادية، ليصب ريعها في خانة اقتصاد الظل الذي يشكل نحو 40 بالمئة من حجم النشاط الاقتصادي العام.

التعايش المؤقت هذا، اصطبغ- لأول مرة- بصبغة شرعية لما وصف وزير الاقتصاد والتجارة الأسبق الدكتور محمد نضال الشعار العامل عليها بـ “الشريف الذي يهدف إلى كسب لقمة العيش”. فالوزير لم يكتف بذلك فقط، وإنما تساءل قائلاً: “ما المانع من أن تكون الحكومة رحيمة معه، طالما أنه لا يرتكب فعلاً شنيعاً “..؟

وكانت الأسواق حينها في عهدة وزارة الاقتصاد بعد تنحية وزارة التموين لسنوات، أي كان حديث الوزير الشعار حينها رفعاً للعتب وتسويغ لأمر واقع خارج عن نطاق إمكانات وزارته!!

فالفعل الذي بسببه زُج صاحبه في السجون لأيام وأشهر، وأُثقل كاهله بالضرائب والرسوم فضلاً عن مصادرة البضاعة “الثمينة”، يتحول فجأة إلى فعل غير شنيع يعطي صاحبه “صك رحمة وبراءة” من المخالفات “الشنيعة”. وفي الوقت ذاته هي رسالة مفادها، أن الرحمة تقتضي ظاهرياً التعايش مع هذه الظاهرة، وغض النظر باطنياً مع أمل إيجاد البدائل فور هدوء الأوضاع.

شح فرص العمل ..السبب

يرجع الخبراء الاقتصاديون، سبب تفشي ظاهرة البسطات الطيارة، بالتزامن مع الاحتجاجات الحالية، إلى ارتفاع معدلات البطالة في البلاد، وعدم قدرة الحكومة على تأمين الوظائف في القطاع العام، أو تشجيع وتحفيز العمل في القطاع الخاص، إضافة إلى ارتفاع تكلفة إقامة مشروع خاص مدرّ للدخل مقارنة مع العمل على “بسطة” يمكن تأمينها بسرعة وبرأسمال بخس، ودون عناء البحث عن محللين ماليين لتفصيل دراسات الجدوى الاقتصادية على مقاسات الجهات التمويلية، وفي مقدمتها البنوك التي مستها لعنة “التمويل” .

كما أن تلبية هذه البسطات لاحتياجات المستهلكين الأقل دخلاً -حيث كل شيء بسعر رخيص؛ الخضار، والفواكه، ومستلزمات المطبخ، والأحذية، والكهربائيات، والمعدات، والألبسة الجديدة والمستعملة- أسهمت بقوة في انتشار هذه الظاهرة. فالبسطة تلبي حاجة صاحب البسطة أولاً قبل حاجة المستهلك، فهي لا تحمّله تكلفة إيجار محل، ولا أية أعباء ضريبية مقارنة مع صاحب محل مرخص أصولاً، ثانياً أسعار معظم معروضاتها “شعبية”، الأمر الذي جعلها تنتشر بشكل عشوائي ومكاني.

الباحث وأستاذ الاقتصاد في جامعة دمشق الدكتور عابد فضلية، عزا  تفشيها إلى انتشار معدل البطالة وأنشطة اقتصاد الظل، مُضيفا سبباً آخر – وصفه بالآني-  ويتمثل في استغلال الظروف الحالية، مع تفهم  الجهات المسؤولة عن معالجة هذه الظاهرة، لحالة الفقر وارتفاع تكاليف المعيشة، وقلة فرص العمل.

اقتصاد شرعي.. ولكن 

يقدّر بعض الخبراء عدد هذه البسطات بـ 30 ألف بسطة بدمشق وحدها، حيث بات من الصعب التعامل معها، وإيجاد حلول إسعافية لها، مع كثرة شكاوى التجار وأصحاب المحال التجارية، و”نق” البعض منهم.

كثرة شكاوى التجار وأصحاب الحوانيت، لا تنفي عن هذا النشاط التجاري صفة الشرعية، فهو اقتصاد شرعي بالمقام الأول ويشكل نسبة لا تقل عن 10 بالمئة من اقتصاد الظل، لكنه غير مرخص. فقد يتواجد في المكان غير المناسب، وبشكل عرض غير مناسب، على اعتبار أن الأرصفة غير مخصصة لأنشطة البيع والشراء والمتاجرة، إلا أنها غير ممنوعة بالمطلق.

وعن الخسائر التي تفقدها الخزينة العامة للدولة، جراء عدم تنظيم هذه الظاهرة، يؤكد الدكتور فضلية، أن تنظيمها يُكسب الخزينة الكثير، في ضوء عدم خضوع صاحب البسطة لأية ضرائب ورسوم. فالظاهرة صحية باعتبارها منتشرة بمعظم دول العالم، لكنها غير صحية لدينا لكونها غير منظمة، وبعبارة أدق إن الجهات المعنية بحلها غير مهتمة بتنظيمها.

حلول اسعافية

” أصحاب الإشغالات أو البسطات لا يتجاوبون مع المحافظة”، كثيراً ما سمعنا هذه العبارة من الجهات القائمة على تنظيمها. فدوائر الخدمات ترسل الدوريات بمؤازرة قسم شرطة المحافظة إلى كل المواقع التي يتوقع وجود إشغالات فيها، وتقوم بحجز الإشغالات الموجودة ومصادرتها وتنظيم ضبوط رسمية بحق أصحاب الإشغالات، ومع ذلك يعود أصحاب البسطات في اليوم التالي ليعاودوا نشاطهم من جديد حتى بعد دفع الرسم والحجز والمصادرة لبسطاتهم، فإنهم يخاطرون ويخالفون مرة أخرى ويشغلون الطرق والأرصفة.

من وجهة نظر المعنيين، الأمر لا يتعدى حدود المخالفة، علماً أن هذا النوع من العمل، بغض النظر عن سلبياته، يحمي أصحابه من الانحراف والسرقة والجريمة، والأهم من ذلك يحميهم من أن يكونوا “عالة على الدولة”. فكل الحلول المطروحة، تكاد تنصب على إقامة البازارات الشعبية التي تعوض عن الانتشار العشوائي للبسطات، مع فرض بعض الأجور الرمزية على أصحاب البسطات في تلك الأماكن. وهذا ما عبّر عنه وزير الاقتصاد نفسه، حينما ألمح إلى إمكانية تخصيص أراض من الحكومة لإقامة ما يشبه “البازارات” على أطراف المدن، يتمّ توطين أصحاب البسطات فيها للقيام بنشاطهم التجاري، وذلك مع ضمان مراقبة عملهم، من حيث عدم بيع منتجات مخالفة، وأن يكون السعر مدروساً.

للأسف الشديد وجهة النظر تلك، لم تؤكدها الجهة القائمة على ضبط هذه الأسواق المتنقلة مكتفية بالقول: إنه تم توجيه دوريات لمراقبة المنتجات المعروضة على  البسطات والعربات المتجولة في الأسواق، بغية التأكد من صلاحيتها، وما إذا كانت سلعاً مزورة أم لا، وكأن الموضوع محصور ببضع مخالفات ..

التكلفة البديلة

قبيل عشر سنوات من الآن، نجحت محافظة دمشق في معالجة ظاهرة البسطات الطيارة، عبر تخصيص أماكن محددة لتجمعها، مثل سوق الجمعة في منطقة الزاهرة وسوق الثلاثاء في منطقة برزة، وغيرها من المناطق التي وصل عددها آنذاك إلى 28 موقعاً مجانياً وغير متطرّف عن حركة الناس. لكن اليوم كل هذه المواقع أُلغيت أو أُجّرت أو أُشغلت بأغراض أخرى، لم تعد تناسب أغراض أيام زمان ..

بديل هذه الأسواق المتنقلة برأي الباحث الاقتصادي فضلية، لا يكمن في قمعها وإنما تنظيمها وضبطها وترخيص ما يمكن ترخيصه في الأماكن المناسبة، وبرسوم مناسبة دون أن يكون ذلك على حساب استباحة أماكن العرض. فمن الأجدى، تجميع هذه البسطات إضافة إلى تجار الشنطة في أسواق شعبية محددة، ذات مساحة محددة أيضاً، ومواعيد افتتاح محددة. ومن المعروف، أن عدم تنظيم هذه الظاهرة يؤدي إلى ما يسمى “التكلفة البديلة في اقتصاد الظل”، ومعنى ذلك أنه لو قامت الجهات المعنية بتنظيم هذه البسطات عبر منح أصحابها تراخيص بأجور زهيدة لكان بمقدورها، أن تحصل على جزء من إيرادات البائعين، وتوظفها في إنشاء  الأسواق وترميمها.

حلول جذرية

دون شك، ظاهرة البسطات بدأت تشكل متنفساً حقيقياً لأربابها، بغية اقتناص دخول مناسبة تعجز الخطط التنموية عن توفيرها، في ضوء عدم تمكن الأسواق الشعبية من تلبية حاجة السوق المحلية لفرص العمل الكافية. فنظر السلطات المحلية لابد أن ينحو نحو خلق فرص العمل للعاطلين عن العمل، وخاصة للشرائح الأكثر فقراً والجامعيين، وألا يقتصر نظرها على أن البسطات الطيارة ظاهرة تشوه وجه المدينة الحضاري، إضافة إلى دعم المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر، بما يسهم في القضاء على هذه الظاهرة في المدى البعيد.

صحيح أن لانتشار هذه البسطات تأثيراً سلبياً على حصيلة مبيعات المحال المرخصة، التي شرعت هي الأخرى بعرض بسطات خاصة بها، لكنها تسهم أيضاً في تدوير عجلة الاقتصاد، من خلال إنفاق أصحاب البسطات لما يكسبونه في عملهم.

لا تكسب دون إكرامية

لا ريب، أن موجة التكسب الاستثنائية هذه – التكسب عبر استغلال الطرقات والساحات العامة – لاقت رواجاً بين مختلف مستويات المواطنين، فضمت مجموعة من مختلف الشرائح فجلس الجامعي إلى جانب الأمي والمسن إلى جانب الشاب فضلاً عن النساء بمختلف أعمارهن، الجميع يمارسون نشاطهم جنباً إلى جنب. فلا أحد ينكر، أن هذه الظاهرة، التي كانت ولا تزال محل استهداف من دوريات المكافحة التي تُشَن ضدها بين الحين والآخر من رجال تربطهم مع أصحاب البسطات علاقة خفية أوضح صورها هو “الإكرامية”، قد حققت دخلاً معيناً لآلاف الأسر والعوائل، وأسهمت في تنمية القطاع التجاري عبر استيعاب شرائح واسعة من العاطلين عن العمل..

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]