العنكبوت والزّرافة..!

 

تقضي الواقعيّة الاعتراف بأنّ “الفضاء الافتراضي” الذي تُوفّره شبكات التّواصل الاجتماعي، لم يعُد افتراضيّاً، بل أصبح واقعاً محسوساً يلعب دوراً مؤثّراً ومباشراً في إعادة بناء الوعي والعلاقات والسّلوك، كما غدا قوّة للفعل والمبادرة في مختلف المجالات وله تأثير مباشر، سلباً أم إيجاباً، في بناء المخيّلة المجتمعيّة.

فأنّى أجلنا النّظر: في البيت، في استراحات العمل، في المقاهي، في المتنزّهات، في الحافلات، أو في أيّ لقاء يفترض الحميميّة؛ نجد الكُلّ مُنشغلاً بهاتفه النّقال، وكأنّ العلاقة الجارية على شبكة التّواصل أهمّ من الحضور الفعلي والتّفاعل المباشر، ما يقطع الشكّ باليقين بأنّ ثورة الاتّصال والتّواصل والفضاء الذي تتيحه شبكاتها ليس مجرّد مسألة تقنيّة، بقدر ما هو ثورة في الوعي، وعلى الوعي والسّلوك والعلاقات، لذا فهو ظاهرة جديّة وعميقة؛ تحتاج إلى نقاش علمي جادّ لإدراك أبعادها والوقوف على تأثيراتها، ما يستدعي من بعض صنّاع إعلامنا؛ التّخفّف من “سلوك الزّرافة” في التّعاطي مع هذه الحقيقة، وإيلائها ما تستحق من اهتمام مع المختصّين في علم الاجتماع، وعلم النّفس، لدراسة دورها ووظيفتها وآثارها وإخضاعها للبحث “السوسيولوجي” العلمي ارتباطاً بخصوصيّة مجتمعنا وبما ينسجم مع قيمه وأخلاقيّاته.

وغيرُ خافٍ ما تعكسه شبكات التّواصل من ظواهر ذات تأثيرات جماعيّة، واسعة الشّمولية، تتمثّل فيما توفّره من إمكانية التّحشيد والتّحريك الاجتماعي الغريزي حول موقف أو حادث ما، لتتحوّل هذه الشّبكات -في بعض الأحيان- إلى ما يشبه الميدان الذي تتحرّك فيه القطعان غريزيّاً؛ لا تدرك أنّ ثمّة قوى خفيّة تقوم بتحريكها وتوجيهها لأهداف مشبوهة، إذ يكفي مثلاً إطلاق شائعة أو تبنّي موقف ما تجاه حادثة عادية جداً دون توضيح سياقاتها وملابساتها حتى تنفلت الجموع من عقالها، وتبدأ بالتّحشيد والتّحريض الذي غالباً ما يستخدم الذّاكرة والوعي الجّمعي في توجيه حركة “القطيع”، كاستخدام: الدّين، والطائفة، والأصل الإثني، وغير ذلك من مُحفّزات فطريّة أو غريزية!.

وتكمن خطورة هذه الظّاهرة؛ حين يتمّ الاشتغال عليها وتوظيفها من قوى خارجية من أجل تغذية الخلافات والتّناقضات الثّانويّة، وإطلاق ديناميّات الصّراع والتّفكيك الذّاتي، وصولاً إلى ضرب مفهوم الوحدة والنّسيج الاجتماعي والوطني، وكذا من خلال وضع الخصوصيّات والجزئيّات الاجتماعية، والدّينية والثّقافية والفئويّة والسياسيّة في مواجهة تناحريّة مع ركائز الانتماء الوطني والهويّة الجامعة.

والحال أنّ هذا الواقع “الافتراضي” يُحتّم على صنّاع إعلامنا رفع حدّ المرونة والدّيناميّة في أداء وسائلنا؛ تحقيقاً للآنيّة واللّحظيّة؛ لمواكبة الحدث، واللّحاق بالجمهور. بقدر ما يُرتّب على وزارة الإعلام ضرورة اجتراح ضوابط قانونيّة وتشريعيّة تكفل حسن استخدام واستثمار الشّبكة العنكبوتيّة، بما يُحقّق المصلحة العامة، ومن دون تفريط بحريّة الأفراد وخصوصيّاتهم وفضاءاتهم الشّخصيّة!.

أيمن علي

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]