موجات هجرة السوريين علامة فارقة.. دول جديدة على القائمة

الخبير السوري:

حدثين بارزين أديا إلى زيادة أعداد السوريين العاملين في الخارج منذ بداية العام 2011 ، وهما نشوء ظاهرتي اللجوء والهجرة وتوسعهما لتشملا وفق البيانات الأممية أكثر من 6 ملايين لاجئ مهاجر سوري يقيم معظمهم اليوم في دول الجوار وسط ظروف عامة صعبة. والحدث الثاني هو ميل معظم الشباب والفتيات إلى السفر بحثاً عن فرصة عمل للمساعدة في إعالة أسرهم المقيمة في المحافظات السورية، وهرباً من الأوضاع الأمنية والاقتصادية السائدة في البلاد. وعليه، فإن الأزمة السورية أسهمت على مدار سنواتها السابقة في إنتاج واقع جديد للعمالة السورية في الخارج من حيث الحجم، الدول المستقبلة للعمالة السورية، وبيئة العمل التي يعمل بها السوريون.

بيد أن ظاهرة العمالة السورية في الخارج ليست بحديثة العهد أو بالجديدة على المشهد السوري، فالدراسات البحثية الوطنية تؤكد أن موجات الهجرة الأولى للسوريين، والتي تمت في بدايات القرن الماضي وكانت وجهتها الأميركيتين، انطلقت بحثاً عن حياة وفرصة عمل أفضل، وهذه حال جميع الهجرات التي تمت لاحقاً وعلى مدار أكثر من 100 عام، والتي لا يستهان بأعدادها قياساً بالمؤشرات الديموغرافية السائدة حينها في البلاد من جهة، وبالأثر الاقتصادي والاجتماعي المتولد عن تلك الظاهرة من جهة أخرى.

ووفقاً لما قاله الصحفي السوري زياد غصن في مقال منشور عبر الميادين فحتى مشارف الأزمة في العام 2011، كانت الصورة الذهنية المتشكلة عن العمالة السورية في الخارج تقود المرء أثناء تناوله تلك الظاهرة إلى حصر اهتمامه بالعمالة الموجودة في دول الخليج العربي أو لبنان فقط، سواء نتيجة الأرقام الكبيرة المتداولة عن أعداد تلك العمالة، والتي كان يقال إنها تتراوح ما بين نصف مليون إلى المليون عامل في الخليج، وأكثر من 250 ألفاً في لبنان، أو لندرة المعلومات المتعلقة بظاهرة العمالة الموجودة في مناطق جغرافية أخرى من العالم.

وبعد حرب الخليج الثانية في العام 1991 ومشاركة القوات السورية في عملية تحرير الكويت، زاد عدد العاملين السوريين في عموم دول الخليج، وهذا كان مشفوعاً بوجود إرادة سياسية دشنت مرحلة جديدة من علاقات دمشق بالعواصم الخليجية، وكذلك بتحسن أسعار النفط عالمياً وخلال فترات زمنية معينة. ورغم عدم توفر بيانات إحصائية دقيقة، فإن المؤشرات جميعها تشير إلى أن سوق العمل في الخليج بقي المستهدف من جانب الشباب السوري خلال العقد الأول من الألفية الجديدة، وإن بشكل أقل من السابق، وذلك نتيجة حالة الانفتاح الاقتصادي التي شهدتها البلاد مع بدايات العام 2000، ولاحقاً بسبب الأزمة المالية العالمية في العام 2008. ومع ذلك، فإن التقديرات الإحصائية تؤكد مثلاً أن عدد السوريين العاملين في الإمارات العربية المتحدة وصل مع نهاية العام 2008 إلى نحو 100 ألف عامل، فيما وصل عددهم في السعودية إلى أكثر من 250 ألف عامل. وهناك أعداد ليست بالقليلة أيضاً في الكويت، قطر، والبحرين.

أما الوجهة الثانية للعمالة السورية كانت لبنان القريب جغرافياً واجتماعياً، والذي كانت مناطقه الحدودية منذ ما قبل مرحلة الستينيات تستقبل عمالاً سوريين، وتحديداً في الأعمال الزراعية. لكن عملياً، زاد عدد هؤلاء في فترة الثمانينيات والتسعينيات مع وجود الجيش السوري في لبنان والأزمة الاقتصادية في سوريا، وعليه فإنه يمكن تقسيم مسيرة هذه العمالة قبل سنوات الأزمة إلى مرحلتين: الأولى قبل العام 2005 وشهدت زيادة كبيرة في أعداد السوريين العاملين في لبنان نتيجة الوجود العسكري السوري في لبنان، ونمو النشاط الاقتصادي في البلاد بعد انتهاء الحرب الأهلية، لا سيما في قطاعات العقارات (إعادة إعمار وسط بيروت) والزراعة والسياحة وغيرها. أما المرحلة الثانية والممتدة بعد العام 2005، والذي شهد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري وخروج القوات السورية من لبنان، وفيه تعرضت العمالة السورية في بعض المناطق اللبنانية إلى أشكال شتى من الاضطهاد والعنف، الأمر الذي حدا بالكثيرين للعودة إلى بلادهم وتراجع أعداد الراغبين بالتوجه للعمل في السوق اللبنانية.

هنا، تتباين أيضاً الأرقام الإحصائية المتعلقة بعدد العاملين السوريين في لبنان قبل العام 2011، لكن التباين هذه المرة سببه سياسي مرتبط بالموقف من الوجود السوري في لبنان. ففي الوقت الذي كانت فيه القوى المعارضة لدمشق تطلق أرقاماً كبيرة حول حجم هذه العمالة متهمة إياها بمنافسة العامل اللبناني، إذ تحدث البعض من تلك القوى عن وجود ما بين نصف مليون إلى مليون عامل في لبنان، وهو من دون شك رقم كبير جداً، بينما القوى المؤيدة لدمشق كانت تتحدث عن أقل من ذلك بكثير.

-خارج منطقتي الخليج ولبنان، كانت العمالة السورية في الخارج غير ظاهرة للرأي العام، أو لنقل إنها كانت بعيدة عن الضوء. ولهذا، لم تكن العمالة السورية الموزعة على قارات العالم تحصل على ما تستحقه من إشارة، إما لأنها لم تشكل ثقلاً عددياً كبيراً في منطقة جغرافية واحدة، أو لأنها كانت نخبوية أو بمعنى أنها كانت ضمن مستوى تعليمي ومهني عال، وتالياً هي حكر على شريحة اجتماعية معينة.

في ما يتعلق بالأثرين الاقتصادي والاجتماعي للعمالة السورية في الخارج، فإن هناك جانبين يمكن النظر إليهما عند مقاربة هذا الأمر: الأول هو التحويلات المالية الواردة إلى البلاد وبالقطع الأجنبي، والتقديرات في العام 2008 كانت تتحدث عن أن قيمة تلك التحويلات تتجاوز سنوياً نحو 850 مليون دولار، ومن دون شك هو رقم هام أسهم في تحسن الوضع المعيشي والاقتصادي لآلاف الأسر، وفي إحداث تنمية محلية قد تكون مبعثرة لكنها كانت مؤثرة. والجانب الثاني تمثل في اكتساب شريحة واسعة من العمالة لخبرات وتجارب مهنية عالية وتوظيفها في خدمة البلاد بعد العودة إليها.

ويتابع غصن بعد العام 2011، أخذت ملامح ظاهرة العمالة السورية في الخارج بالتبدل تدريجياً، وذلك مع تبلور الآثار الاقتصادية والاجتماعية للأزمة، إذ لم تعد الأعداد الكبيرة للعمالة حكراً على لبنان ودول الخليج كما كانت الحال سابقاً، وإنما امتدت لتشمل دولاً أخرى كتركيا، الأردن، العراق، مصر، السودان، وغيرها، متأثرة في ذلك بظاهرتي اللجوء والهجرة أولاً، وبالتدهور الاقتصادي الحاصل في البلاد ثانياً، وبفقدان الأمل بإمكانية استعادة البلاد لاستقرارها السياسي والاقتصادي والاجتماعي ثالثاً.

ومع ذلك، فإنه يمكن تحديد ملامح هذه المرحلة ومتغيراتها بالنسبة إلى العمالة السورية في الخارج بالنقاط الآتية: كان من الطبيعي مع ظهور مجتمعات جديدة في دول الجوار تحت اسم “مخيمات اللجوء”، تضم بحسب تقديرات الأمم المتحدة ما يقرب من 6 ملايين لاجئ سوري، من تشكل سوق جديدة للعمل ركيزتها آلاف السوريين الباحثين عن عمل يسد احتياجات أسرهم الأساسية، إذ إن المعونات الإغاثية الأممية غير كافية من حيث قدرتها على الوصول إلى جميع المحتاجين، وعجزها عن سد كامل احتياجات الأسرة الواحدة،والملاحظ هنا أن موقف حكومات الدول المستضيفة للسوريين تباينت بين حكومات سمحت للسوريين بالعمل فيها بلا قيود كتركيا، وبين أخرى سمحت ضمن مهن محددة كالأردن، وبين ثالثة وضعت شروطاً وقيوداً صارمة تصل إلى درجة الحرمان كلبنان. فيما كانت مواقف بعض الدول متباينة تبعاً لظروفها السياسية كمصر مثلاً.

وفيما تذهب التقديرات الإحصائية بمعظمها إلى تأكيد أن عدد العاملين السوريين في تركيا وصل إلى قرابة المليون عامل، فإن التقديرات الخاصة بعدد هؤلاء في الدول الأخرى مثل لبنان، الأردن، مصر، العراق، وغيرها لا تزال غير متوفرة لأسباب كثيرة، بعضها سياسي والآخر لوجستي.

ووفقاً لما جاء في تقرير حالة السكان لعام 2020 الصادر عن الهيئة السورية لشؤون الأسرة والسكان، فإن البيانات المتوفرة عن السكان تشير إلى أن نحو 3.136 مليون سوري كانوا موجودين خارج أراضي الجمهورية العربية السورية في منتصف عام 2014، توزعوا بين نحو 2.134 مليون لاجئ، ونحو مليون مهاجر. وقد شكل لاجئو ومهاجرو محافظة حلب نحو ثلث المهاجرين واللاجئين، بينما شكل لاجئو كل من محافظتي درعا وريف دمشق نحو11 % لكل منها. فيما شهدت محافظات السويداء والقنيطرة وطرطوس واللاذقية أخفض نسب الهجرة واللجوء. وفي السنوات التالية، استمرت أعداد المهاجرين واللاجئين بالارتفاع، وقدرت هذه الأعداد عام 2019 بنحو 5.8 مليون لاجئ ومهاجر، بالرغم من انحسار الأعمال العسكرية وبسط الحكومة سيطرتها على معظم الأراضي السورية، فإن استمرار أعداد المهاجرين بالارتفاع يشير إلى دلائل أخرى، وتغلب الدوافع الاقتصادية على الأمنية فاتساع معدلات البطالة والفجوة بين مداخيل العمل ومتطلبات العيش وارتفاع معدلات الفقر دخلت وبقوة كعوامل طاردة للسكان، وخاصة أولئك في سن العمل”.

أيضاً أسهمت ظاهرتا اللجوء والهجرة نحو الدول التي هي خارج حدود المنطقة العربية كأوروبا والأميركيتين في ارتفاع عدد العاملين السوريين في هذه الدول، سواء بحكم ما يمتلكونه من مهن ومهارات وخبرات فنية أو في إطار مسعاهم للاندماج بهذه المجتمعات. ووفقاً للتقديرات المتعلقة بعدد السوريين المهاجرين أو اللاجئين في خارج دول المنطقة، والتي تتحدث عن أكثر من مليون شخص، فإن عدد العاملين السوريين في تلك الدول ليس بالقليل، وهو يزداد يوماً بعد يوم مع تحقيق الكثير من السوريين لشروط العمل.

ولم تقتصر تركيبة الدولة المستقبلة للعمالة السورية على تلك التي توجد على أراضيها مخيمات اللجوء أو التي قصدها السوريون كمهاجرين ولاجئين، وإنما توسعت القائمة لتضم دولاً لم يكن يعتقد في يوم من الأيام أن تتحول إلى مقصد لعمل السوريين كالصومال مثلاً، أو السودان، أو البرازيل، وغيرها. إذ نتيجة للتدهور المستمر في الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، والذي كان قد بدأ مع نهاية العام 2019، وتشدد بعض الدول في منح السوريين موافقات وتأشيرات للعمل لديها لم يجد السوريون بداً من طرق أبواب دول أخرى موزعة على قارات العالم الخمس بيد أن أكثرها إثارة للاهتمام هي تلك التي تعاني أوضاعاً أمنية واقتصادية غير مستقرة كالمشار إليها آنفاً.

أما واحدة من الملاحظات الهامة المثارة حول ظاهرة العمالة السورية في الخارج تتعلق بظروف عملها ومستويات الأجور الممنوحة لها والأمان الوظيفي. فالطلب المتزايد على العمل من السوريين في الخارج لأسباب لا تخفى على أحد، دفع بالكثير من أصحاب العمل إلى استغلال ذلك ومقايضة العاملين على أجور منخفضة، وشطب تعويضات كثيرة، وتهديدهم المستمر بالطرد، خاصة بالنسبة إلى العاملين بشكل غير قانوني، ما يعني أن جزءاً ليس بالقليل من العاملين في الخارج بالكاد يؤمنون احتياجات معيشتهم، وتالياً لا يتمكنون من توفير بعض المال لمساعدة الأهل والأقارب أو لادخاره. كما أجبر هذا الواقع كثيرين على القبول بمهن أقل من مؤهلاتهم العلمية أو بمراتب وظيفية غير مناسبة.

وكذلك شهدت تركيبة العمالة في الخارج خلال السنوات الأخيرة بعضاً من التغييرات الواضحة من قبيل تزايد أعداد النساء والفتيات، إذ يلاحظ حدوث ارتفاع في أعداد النساء والفتيات اللواتي يسافرن بحثاً عن عمل بغية إعالة أسرهن في البلاد، وهذه ظاهرة لم تكن موجودة سابقة، خاصة وأن الكثير من النساء والفتيات يضطررن للعمل في مهن أخرى غير تلك التي يرغبن فيها أو التي يحملن مؤهلاً علمياً بها.

وفيما يخص العدد المتزايد للعاملين في الخارج تزامن مع عقوبات غربية على التحويلات المالية المباشرة إلى سوريا، وعليه فإن التوقعات بحتمية زيادة قيمة التحويلات المالية السنوية للعاملين السورية لم يحالفها الحظ تماماً، فهي وإن كانت قد زادت مقارنة بما قبل الأزمة فإنها لا تتناسب والتقديرات المتعلقة بعدد السوريين العاملين في الخارج والذين لا يزال بعضاً من أفراد أسرهم داخل البلاد. والتقديرات المتداولة تتحدث عن أن قيمة التحويلات السنوية من الخارج تصل إلى أكثر من 2.5 مليار دولار أو ما يقرب من 7 ملايين دولار يومياً. فيما تتحدث بيانات المكتب المركزي للإحصاء للعام 2020 عن أن صافي التحويلات الجارية من العالم الخارجي بلغت نحو3067 مليار ليرة، أي ما يعادل تقريباً نحو 3 مليارات دولار بناء على سعر صرف رسمي للحوالات في ذاك العام قدره 1256 ليرة.

بينما الوجه الآخر للأثر الاقتصادي يتمثل في المبالغ التي يدفعها الشباب للظفر بفرصة عمل في دولة ما. فهناك أسر كثيرة باعت منازلها، وأخرى باعت ما تملكه من عقارات أو أملاك أو مصوغات ذهبية لتأمين الفيزا وبطاقة الطائرة لفرد من أفرادها. وهوما يطرح تساؤلات عن صوابية هذا الإجراء مقارنة بالعائد المالي المتحقق.

رغم كل هذه الصورة السوداوية لواقع العمالة السورية في الخارج، فإن خيار السفر بحثاً عن فرصة عمل أفضل لا يزال يراود مخيلة كثيرين من جيل الشباب في ضوء استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في البلاد، وفقدان الأمل بإمكانية أن تحمل الأيام القادمة معها حلاً للأزمة المستمرة منذ العام 2011. لكن، ما هي وجهات السفر الجديدة للسوريين؟ وهل هناك مكان ما في هذا العالم يمكن أن ينصفهم؟

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]