منظومة جاهزة للإقلاع على طريق الإصلاح.. تنتظر كلمة السر المفتاحية…

 

 

شهدت العقود الخمس الماضية وجوداً متصاعداً لإدارات القطاع العام بكل أنواعها الإنتاجية والإنشائية والخدمية والتجارية، ما نجم عنه فيض من الإنجازات في جميع الميادين، وولد ارتياحاً كبيراً وشعوراً عاماً بأن تلك المرحلة كانت مرحلة بناء سورية الحديثة، ولا ينكر ذلك إلا كل مكابر، إلا أن ما شهدته السنوات الأخيرة من تراجع وتهميش لدور هذا القطاع، جاء خلافاً لما كان مرجواً ومأمولاً، ومناقضاً للتوجهات الرسمية بإصلاح خلله ومكافحة فساده، أكان ذلك من خلال ما ورد في مقررات وتوصيات مؤتمرات أو ما صدر في مراسيم وقوانين وقرارات أو عبر الوعود المتكررة من على المنابر الإعلامية وأثناء الاجتماعات، ما انعكس سلباً على عامة المواطنين الذين تحسسوا خطورة ذلك.

 

متوالية انحدار

والطامة الكبرى تجلت بشكل أكبر عندما انحسر دور القطاع العام جزئياً في بعض الأمكنة وانقطع كلياً في أمكنة أخرى وتتابعت الحالة من سيئ إلى أسوأ، يظهر ذلك في الضعف الذي بدا في أداء العديد من المواقع الخدمية ما تسبب بضعف إنتاج بعضها وتوقف بعضها الآخر، فبدلاً من استعادة نشاط النقل العام الخارجي والداخلي، تم فتح الباب على مصراعيه أمام شركات القطاع الخاص بما يزيد على الحاجة الفعلية حتى ضاقت بآلياتها الساحات والطرقات، فالعديد من البولمانات تنطلق في موعدها بملاءة قليلة من الركاب وكثيراً ما شهدت مراكز الانطلاق بعض المشادات لجذب الراكب من شركة إلى شركة، والمؤسف أن المنظرين لم يكتفوا بإخراج شركات النقل العام الخارجي (الكرنك …) وشركات النقل العام الداخلي في مراكز المحافظات، بل عمدوا مؤخراً لإخراج آلاف السيارات الصغيرة (الميكروباصات) العائدة لأسر تقتات من عملها، من الخدمة في بعض شوارع المدن الكبرى، وذلك لمصلحة كبار أصحاب شركات النقل الخاصة، وليس لإحلال شركات نقل داخلي حكومية محلها، بل يبدو أن الخطوط التي تشهد كثافة ركاب أكثر أعطيت لشركات النقل الخاصة وبالأجور التي تناسبها، والخطوط التي تشهد كثافة ركاب أقل أعطيت لشركات النقل الداخلي تمهيداً لإيقاعها بالخسارة من جديد وإخراجها كلية من العمل، وكان وما زال التمهيد قائماً باتجاه خصخصة قطاع النقل كاملاً بما في ذلك شركة الطيران العربية السورية وقد تم التمهيد لذلك عبر العديد من الإشكالات التي وقعت في هذه الشركة وكادوا يصلون لأهدافهم، ولم يقتصر ذلك على ميدان قطاع النقل، فقد تم إطلاق العنان للتجارة الحرة الخارجية والداخلية، بدلاً من إعادة تنشيط المؤسسات التجارية العامة ، فنشط القطاع الخاص باتجاه استيراد الكثير مما لسنا بحاجة ماسة له وبنوعيات رديئة، حتى ضاق المواطن ذرعاً من كثرة الأنواع الموجودة أمامه، وترافق ذلك بما شهده سوق التجارة الداخلية في مجال البضاعة المهربة وتردي ضبط وانضباط الجودة والأسعار، في الوقت الذي ضعفت فيه همة التجار عن تصدير بعض فائض إنتاجنا رغم جودته، حيث تكدست في منشآتنا كميات كبيرة من الغزل والنسيج، وكثير من إنتاج حمضياتنا وخضارنا بيع بأبخس الأثمان، أو لم يتم جنيه لعدم وجود سوق تصريف بسعر يعادل أتعابه، وزيت زيتوننا مخزن منذ عدة سنوات، والمؤسف أكثر أن الهمة كانت وما زالت كبيرة باتجاه تصدير ثروتنا الحيوانية، ولولا بعض الجهود لوقف نزيفها لكانت تعرضت لمخاطر كبيرة، والحالة نفسها في القطاع الصناعي الذي شهد المزيد من التراجع، فالشكوى قائمة في العديد من المنشآت الصناعية، حتى إننا مازلنا نعيش أزمة توقف /14/ منشأة صناعية عامة كبرى عن العمل ورواتب عمالها مستمرة من حساب الميزانية العامة، والخلل الأكبر ظهر في القطاع العام الإنشائي ما أدى إلى إضعافه وقصور أدائه بشكل كبير، وقد تكرس كل هذا الضعف والقصور في مجمل القطاعات نتيجة تراكم المزيد من الخلل في العديد من المفاصل الإدارية، والغريب في الأمر أن الحكومة السابقة التي كان مأمول منها أن تكون حكومة الإصلاح ومكافحة الفساد لم تنجز ما يستحق الذكر بهذا الشأن، بل شهدت مرحلتها خللاً وفساداً جديدين وترسيخاً لما كان موجوداً من ذلك سابقاً، ما أسس لمزيد من الاحتجاج الضمني والعلني لدى جميع العقلاء، ومهد لقلب البلاد إلى فوضى بصخب بعض الجهلاء، الذين وجدوا من يزمر ويطبل لهم ويهيجهم عن بعد وعن قرب بحجة الإصلاح وهم أبعد ما يكونون عن ذلك، ما تسبب بانقلاب الحالة من صخب إلى شغب وتخريب وقتل، وأوصل البلاد إلى أسوأ حالات الفساد بل إنه الإفساد بعينه.

 

نصف المهمة

لقد أصابت السلطات الرسمية عين الحقيقة عندما أقرت بأن معظم المطالب المشروعة محقة، وأصابت أكثر عندما واجهت الشغب والتخريب انطلاقاً من واجباتها ومسؤولياتها وبكل جدارة وحكمة، ولكن إصابة الهدف تتحقق بشكل كامل عندما يرافق ذلك ويعقبه العمل على تلبية المطالب المحقة، لكون هذه السلطات هي المعنية بذلك، ما يقتضي أن تقوم باتخاذ الإجراءات اللازمة لكبح جماح الخلل والفساد والإفساد قديمه وجديده وتاليه، ومن المؤكد أنه لن يكون باستطاعتها ذلك إلا عبر مؤسساتها الرسمية بكل أشكالها ومهامها، وفي طليعتها جميع إدارات القطاع العام، ما يثبت بالدليل القاطع أن إعادة إحياء نشاط إدارات القطاع العام بكل أنواعها (الإدارية والإنتاجية والخدمية والإنشائية) لاستعادة دورها المهم المفقود وتنمية دورها المهم الموعود، حاجة وطنية ومطلب جميع المواطنين.

إن إحياء نشاط القطاع العام لا يتناقض البتة مع فتح الباب أمام القطاع الخاص للقيام بدوره، بل إن نشاط كل منهما يجب أن يكون مكملاً لنشاط الآخر، وضمن أجواء تنافسية، توفر الأجواء اللازمة لعمل كل منهما ضمن العديد من المجالات، علماً أن المصلحة الوطنية الاقتصادية الاجتماعية تقتضي ألا يكون تواجدهما لازماً في جميع المجالات، فقد ثبت أن القطاع العام لم يحقق نجاحاً في مجال الزراعة والتربية الحيوانية والمتاجرة بالخضار والفواكه، ولكن ثبت أنه باستطاعته (بجهد إدارات نزيهة وعاملين شرفاء) أن يحقق المزيد من النجاح في مجالات أخرى عديدة، وما ظهر من فشل له في بعضها، لم يكن فشلاً بل كان تفشيلاً وإفشالاً متعمداً، وكل مقومات النجاح كانت قائمة إذا ما أريد لها الدور المنوط بها.

 

تكامل

إن الطريقة المثلى لتحقيق استعادة دور القطاع العام وتحقيق نجاحه، تتمثل بتحقيق تكامل العمل بين جميع مؤسساته، فالحاجة ماسة لتنشيط الزراعة بالتوازي في جميع مجالاتها لما فيه حاجة ومصلحة المزارع وحاجة ومصلحة مستهلكي إنتاجه، ولما يمكن من تشغيل المنشآت القائمة في مجال التصنيع الزراعي والتمكين من تأسيس منشآت جديدة، ضمن إعادة هيكلة القطاع العام الصناعي بما يمكن من استثمار أمثل لجميع المنشآت القائمة واستعادة نشاط المجمد منها وإقامة منشآت جديدة وفق المعطيات المتوفرة والمتطلبات المنظورة، وكل ذلك يجب أن يتحقق بتنشيط مؤسسات تجارية عامة تضمن تأمين المدخلات اللازمة بالتوقيت اللازم وبالسعر المناسب ما كان منها متوفراً داخلياً أو واجب الاستيراد، وأيضاً مؤسسات تجارة عامة تتولى تسويق المنتج (المخرجات) أكان داخل القطر أو تصديره للخارج، إلى جانب إعادة تنشيط القطاع العام الإنشائي، وخاصة في مجال القطاع السكني، بتأمين السكن المسبق لطالبه بالجودة المطلوبة وبالسعر الأدنى من أسعار القطاع الخاص، فمزيد من تنشيط القطاع العام سيؤدي إلى حل مشكلة البطالة المشكلة الموعودة الحل والتي آن لوعدها أن يتحقق، فتحقيق الإصلاح العام مرهون بنجاح القطاع العام، ونجاح القطاع العام مرهون بتكامل العمل بين جميع مؤسساته.

 

 

عبد اللطيف عباس شعبان

عضو جمعية العلوم الاقتصادية السوري

 

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]