إعادة استيراد المواد الأساسية إلى عهدة القطاع العام حكمة.. وإطلاق “الخاص” في ملعب الكماليات تدبير

 

 

خاص – الخبير السوري:

لا يمكن لأي اقتصاد وطني أن يمتّن أواصره ويحقق أعلى معدلات نمو له دون أن يتضافر جهد كل من قطاعيه العام والخاص في وحدة متكاملة لا يطغى فيها أو يتعدى أحدهما على الآخر، ليستطيعا السير بتناغم وانسجام بما يحقق المصلحة العامة، وذلك من خلال أن يقوم الأول بالتخطيط الاستراتيجي ضمن رؤية واضحة تحدد مسار الثاني ويشرف عليه ويضبط حركته ونشاطه الاستثماري والتجاري -ولاسيما بعد حصوله على الكثير من المزايا التشجيعية- حتى لا يخرج عن القوانين والأنظمة النافذة، ولا يقع -في الوقت نفسه- في مطب الطفل المدلل ويتحول تدريجياً إلى طفيلي جبان، وبذلك يكون عمل كلا القطاعين متوازناً بموجب معادلة تخول كل قطاع أن يقوم بدوره المنوط به.

لكن هذه المعادلة في سورية تفتقر في كثير من الأحيان إلى توازنها واستقرار كفتي ميزانها المتأرجحتين يميناً ويساراً دون الأخذ بعين الاعتبار ما سيحققه كل طرف، ما أدى إلى تجاوزات من العيار الثقيل، ليس أولها فتح أبواب الرشاوى والدفع من تحت الطاولة وفوقها، وليس آخرها حالات الاحتكار الكبرى وما جلبته من أرباح تقدر بالمليارات وليس بمئات الملايين حسب ما أكده بعض العارفين بخفايا الصفقات المشبوهة.

غير صحي

هذا الوضع غير الصحي الذي أضاع -وسيضيع في حال استمراره- أموالاً بأرقام فلكية على الخزينة العامة من جهة، وألحق الضرر بالمستهلك (وهو الضحية الكبرى) جراء ما اقترفه ويقترفه حيتان السوق المحلية، ما حدا ببعض الغيورين على المصلحة العامة للمناداة والدعوة إلى إعادة النظر بالدور الذي حظي به القطاع الخاص وما نتج عنه من أضرار لامست لقمة عيش المواطن من جهة استيراده للمواد الأساسية اليومية وخاصة الغذائية منها، ويرى هؤلاء الغيورون أن دواعي المصلحة العامة تقتضي أن تسحب الدولة البساط من تحت القطاع الخاص الذي لم يكن أهلاً في مهمته وتكامله مع نظيره العام، وأن تأخذ الدولة دوره باستيراد المواد والسلع الأساسية، وإن كان ذلك على حساب نهج اقتصاد السوق الذي اعتمدناه سبيلاً لاقتصادنا الوطني، وخاصة أن الدولة لديها إمكانيات كبيرة للقيام بذلك من خلال مؤسساتها العامة والمتخصصة، فبإمكان مؤسسة عمران أن تتولى تأمين مواد البناء بأسعار منافسة وجودة عالية، والمؤسسة الاستهلاكية قادرة على تأمين المواد الغذائية الأساسية اليومية بطريقة تراعي وضع المستهلك المادي والاجتماعي، وكذلك المؤسسة العامة للتجارة الخارجية تسد حاجة السوق من الأدوية الإستراتيجية التي لا تُصنّع محلياً وغير ذلك مما له علاقة بحياة المواطن وحاجاته الأساسية، وبذلك تكون قد راعت مصلحة المستهلك وحالت دون وقوع تجاوزات قطاع آثر مصلحته على المصلحة العامة.

صيغة توافقية

لكن في المقابل يرى البعض أن القطاع العام له تجاوزاته التي لا تنتهي من تواطؤ ضعاف النفوس من المتنفذين مع الجشعين من التجار، وإن تقليص دور القطاع الخاص ليس حلاً يستطب به، ما يعني ضرورة التوصل لصيغة توافقية تضبط إيقاع العمل، فلا الخاص يتمرد على القوانين والأنظمة، ولا العام يغرق في تعقيدات روتين وبيروقراطية معاملات وعقود الاستيراد، وفي هذا السياق يرى بعض الاقتصاديين أن تدخل الدولة وتكفلها بتأمين واستيراد المواد الأساسية للمستهلك لا يقطع دابر الاحتكار، ولا شيء يضمن ألا يدخل المحتكرون على خط شراء ما تستورده الدولة بأساليب ملتوية واحتكاره كما يشاؤون، فضلاً عن أن قيام الدولة بهذا الدور يشتت جهودها ومواردها بالقطع الأجنبي، ويعتبر هؤلاء أن الحل الأفضل هو زيادة عدد مستوردي المواد الأساسية (ولاسيما الغذائية منها وبشكل خاص مستوردي السكر الذين لا يتعدى عددهم الخمسة مستوردين) وذلك من خلال تسهيل شروط الاستيراد الذي من شأنه زيادة عدد المستوردين وبالتالي زيادة العرض وتحقيق المنافسة بالسعر والنوعية، إلى جانب تطبيق معايير صارمة للرقابة على المستوردات.

ويستشهد بعضهم بسوق الأدوات الكهربائية التي تشهد منافسة حقيقية نتيجة تعدد الوكلاء والمستوردين وطرحهم لأنواع وأصناف عديدة في السوق المحلي وبأسعار منافسة على عكس سوقي الغذاء ومواد البناء المحتكرين من قلة من المستوردين، مشيراً إلى أن بعض السلع الغذائية الأساسية محصورة باسم عدد محدود من التجار الذين يتحكمون بها وبتصريفها بالسعر الذي يريدون، وفي حال أقدم مستورد ما من خارج تلك المجموعة على استيراد أي سلعة من تلك السلع فإنه يعرض تجارته للخطر من مافيا الاحتكار التي لا تدخر جهداً لمنع إدخال شحنات منافسيها إلى البلد.

إذ يحق لأي تاجر أن يستورد سكراً على سبيل المثال ولكن ليس بإمكانه إدخاله إلى البلد، وهنا يبرز دور مافيا السوق الحقيقية الناتجة عن الفساد الكفيل بامتصاص جميع البرامج الإصلاحية، والذي لا يوجد إلى الآن أي إجراء حقيقي لمكافحته سوى الإجراءات الشكلية، لأن كبار الفاسدين مسيطرون على كثير من المفاصل الإدارية وقادرون على صياغة قوانين مفصلة على قياس مصالحهم الخاصة.

مرونة

في المقابل يرى الدكتور آخرون أنه لا يمكن إلغاء دور القطاع الخاص وخاصة في مرحلة الانتقال إلى اقتصاد السوق الاجتماعي، لكن يمكن أن تقوم الدولة باستيراد بعض المواد الأساسية الغذائية عن طريق مؤسسات التجارة الداخلية -وتحديداً المؤسسة الاستهلاكية- من خلال تخصيص القطع الأجنبي لها والشراء من المصدر مباشرة وطرحها في مراكزها بأسعار مناسبة وبهامش ربح معقول ومنطقي، وهنا يكمن الدور الإيجابي والمنافس لهذه المؤسسات حيث تؤمن السلع بالأسواق بما يعادل الطلب عليها وتمنع بالتالي الاحتكار ورفع الأسعار من ضعاف النفوس، ولتحقيق ذلك لابد من إعطاء المؤسسات المرونة الكافية لاستيراد السلع والمواد الأساسية بالسرعة الكلية وتأمين السوق عند الحاجة.

وللتوضيح.. يُقصد بالمرونة عدم تطبيق قانون العقود رقم /51/ الذي يفتح المجال واسعاً أمام الفساد ورموزه، ويؤخر عمليات الاستيراد وتأمين حاجة الأسواق بغية تحقيق مصالح بعض التجار والمتواطئين معهم من خلال التلاعب بإجراءات التعاقد الروتينية المعروفة كالإعلان وتدقيق العروض وفضها …الخ

 

 

تقاسم الكعكة

ويخلص المطلعون على التفاصيل إلى أن الحل يكمن بعدم لجم القطاع الخاص عن ميدان الاستيراد وأن يكون له حصة من كعكته، وفي الوقت نفسه تقوم الدولة عبر مؤسساتها التجارية -بعد إعطائها المرونة المطلوبة- بالاستيراد من المصدر مباشرة عن طريق عقود التراضي، ولاسيما أنها غير عاجزة عن ذلك وتمتلك الإمكانيات الكبيرة التي تخولها التدخل مباشرة في السوق وتحقيق المنافسة مع القطاع الخاص ومنعه من الاحتكار بطرق مباشرة وغير مباشرة، دون أن يبقى نشاطها محصوراً في هامش ضيق وإجبار المستورد أن يبيعها ما نسبته 15% من تجارته بسعر التكلفة وخاصة مادتي السكر والرز.
 

آخر القول

ثمة إجراءات نعتقد أن على الجهات المعنية اتخاذها في حال إصرارها وتمسكها بالقطاع الخاص وقناعتها بسيرورة عمله…لعل أولها بعد السماح لكل راغب بالاستيراد تطبيق معايير صارمة للمستوردات وتدقيق إجازات الاستيراد لتحديد الأسعار بالنسبة للمستهلك وفقاً لسعر الاستيراد الحقيقي، إلى جانب تفعيل دور هيئة المنافسة ومنع الاحتكار ولاسيما أننا نسعى لاعتماد اقتصاد السوق، وأخيراً وليس آخراً استئصال كل بؤر الفساد ورموز الصفقات التجارية المشبوهة، وعندها يمكن بالفعل أن يكمل قطاعنا الخاص نظيره العام.

 

 

 

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]