ثلاثية مشكلات السوريين تتماهى بين الأزمة والتأزيم..بطالة وفقر وإسكان

 

 

البطالة والفقر والسكن مشكلات رئيسية ثلاث تعاني منها الكثير من بلدان العالم، ولعقود من السنين يشهد قطرنا المزيد من الحديث الرسمي والشعبي عن هذه المشكلات التي شغلت وما زالت تشغل الكثير من المواطنين والمهتمين بالشأن العام من مفكرين وإعلاميين واقتصاديين على أكثر من صعيد، وقد أظهرت الإحصاءات الرسمية أرقاماً ونسباً ومؤشرات تدل على مدى كل أزمة والتحسن الذي حل بالتتابع، ولكن بعض المكابرين عمدوا إلى التشكيك بالإحصاءات الرسمية المتوفرة بهذا الخصوص، مصرين على أن حجم كل مشكلة من هذه المشكلات أكبر بكثير مما تشير إليه الأرقام المنشورة، وبعضهم مال إلى اتجاه القراءة في أرقام إحصائية صادرة عن جهات أخرى غير المكتب المركزي للإحصاء (الجهة الرسمية المعنية بإعداد الأرقام الإحصائية)، والتهويل بها عبر الإعلام ما دفع باتجاه تأزيم كل مشكلة أكثر مما هي عليه، وولًد لدى الكثيرين في الداخل والخارج انطباعاً بأن سورية تعيش أزمات كبرى جداً في البطالة والسكن والفقر، خلافاً لما هو عليه الحال، وتكرار الحديث عن هذه المشاكل وتضخيمها أكثر مما هي عليه وبطريقة الإثارة ما زاد التأزيم تأزيماً، حيث لو صدَّق البعض العديد من الرؤى لتولدت لديهم قناعة بأن نسبة كبيرة من الشعب السوري تحت خط الفقر ودون سكن ودون عمل، وأكاد أجزم بأن ما شهدناه وما زلنا نشهده بخصوص تأزيم هذه المشكلات الثلاث يكاد يكون مقارباً لعملية التأزيم التي يقوم بها الإعلام الخارجي حالياً بشأن التظاهرات الاحتجاجية التي شهدتها بعض المدن السورية، وبشأن ما هو مزعوم بخصوص تقييد الحريات حيث لو صدقنا هذا الإعلام لكانت سورية في حالة مريبة جداً خلافاً لما هي عليه الآن، ولكن رجال إعلامنا المحلي ومعهم المفكرون والمحللون السياسيون الواعون يستحقون كل الشكر، لدورهم الكبير والناجح في كشف زيف الإعلام الخارجي، ما أدى لانقشاع حالة التخوف التي كانت تتملك البعض من خطورة الدور التخريبي الهدام الذي يمارسه من يسمون أنفسهم معارضين وطالبي حرية، وهم الذين عملوا على تقييد حرية الناس في الكثير من المناطق، وهذا يستوجب أن يستمر الإعلام والمهتمون بدورهم الرائد في إظهار حقيقة جميع المشكلات (ومنها البطالة والفقر والسكن).

من هنا أرى أن هذه الأزمات الثلاث موجودة في قطرنا بنسب متفاوتة بين محافظة وأخرى، ولكن بشكل أخف بكثير من الحجم الذي تثيره أو تعمد لتضخيمه جهة ما أو أكثر، ومن خلال معايشتي للواقع ولإعداد الأرقام الإحصائية أقول إن حال المشكلات الثلاث لا يماثل ما تظهره الأرقام، بل هو اخف وليس أكثر كما يزعم البعض، مع الأسف لتزايدها إثر الأحداث الأخيرة، ولكنها مازالت أقل مما يهوّل عنها وهي تحت السيطرة، ولكن ما بدا من وعي كبير للشعب السوري واهتمام رسمي جدي بمعالجة جميع المشاكل، يجعل هذه المشكلات تحت السيطرة وبما يوصل بلدنا إلى ما ينشده من تقدم وازدهار. وفيما يلي قراءة في هذه المشكلات الثلاث:

البطالة: كلنا يعلم أن ظاهرة البطالة لم تكن محط شكوى في العقود القديمة، ولم يكن أحد يلقي باللائمة على الدولة لأنها لا تؤمن له عملاً، وكان أغلب الناس يعتمدون على أنفسهم بما ملكت أيديهم، ولكننا نشهد في هذه الأيام أن البعض يعمدون لتجاهل ما تملكه أيديهم من عقارات أو منشآت أو معدات تحت حجج واهية وربما البعض يبيعها بأبخس الأثمان ويلقي باللائمة على الدولة لأنها لا توظفه، ولكن مشكلة البطالة تفاقمت بالترافق مع تحسن المستوى التعليمي لأن جميع المتعلمين يرغبون ويطلبون وظائف، ما جعل من البطالة مشكلة قائمة ولكنها شهدت في السنوات الماضية انخفاضاً بشكل ملحوظ، من حوالي 20 % إلى حوالي 8 %، والأعداد الكبيرة المسجلة في مكاتب التشغيل تحتاج إلى مزيد من المراجعة والتدقيق، فكلنا يعلم أن نسبة كبيرة من المسجلين يمارسون عملاً ولكنهم يبحثون عن عمل لدى إدارات الدولة، وأما بخصوص الأرقام الإحصائية عن البطالة، فمن المؤكد أن بعض المواطنين يقولون للباحث الإحصائي أنه لا يعملون ولكنهم في الحقيقة يعملون و لا يقرّون، ظناً منهم أن ذلك قد يحرمهم من فرصة عمل يطمحون إليها في إدارات القطاع العام، وقد أخبرني أحد أعضاء لجنة المقابلة في إحدى المسابقات أنه تعمّد توجيه سؤال لكل مشارك في المسابقة “وهو ماذا تعمل الآن” فنسبة عالية جداً منهم أجابوا أنهم يعملون، وكلنا يعلم أن بعض المقبولين في المسابقات أو المرشحين من مكاتب التشغيل لا يلتحقون بالعمل، نظراً لما يرونه من أفضلية ارتباطهم بالعمل السابق الذي يمارسونه، وكلنا يشهد أن بعض طالبي العمال في العديد من الأماكن لا يجدون العامل الذي يرغبون عند حاجتهم له، وتأزم مشكلة البطالة يعود لأن أغلبية طالبي العمل يطمحون لعمل منظم ومتواصل ومضمون ومريح وبالأجر الذي ينشدونه، وهذه الرغبات لم يعد توفيرها في ظروف اقتصادية لم تسمح بدخل كبير لجميع العاملين ولا بد من وجود دخول متفاوتة أكان ذلك في القطاع العام أم الخاص، واقتصاد السوق الاجتماعي يقضي بضمان تحقق مصلحة العامل وأرباب العمل معاً، ومع كل ذلك فالدولة عازمة على بذل جهود حثيثة لمكافحة البطالة الموجودة وفق برامج معدة ومعتمدة، والحل الأساس يبدأ من سعي كل مواطن لتأمين عمل بنفسه ما أمكن ذلك، إذ من المستحيل أن يكون جميع الناس موظفين لدى دوائر الدولة.

السكن: لم يكن من المعهود في العقود الماضية أن تثار أزمة السكن بالشكل الذي تثار به حالياً، ولم يكن يخطر ببال المواطنين أن يطالبوا الدولة بتأمين السكن لهم، وكل مواطن كان يجهد بنفسه لتأمين المسكن الذي يناسبه في حدود إمكاناته، ومع ذلك فقد شهدت العقود الأخيرة جهوداً كبيرة جداً في مجال حل أزمة السكن، وخاصة في مجال السكن الطلابي والسكن العمالي والسكن التعاوني، وأصبح ريفنا عامراً بالمساكن الإسمنتية بدلاً من المساكن الترابية والخشبية التي كانت هي الغالبة، ومع ذلك لا جدال انه توجد أزمة سكن إلى حد ما، ولكن ليس بالشكل الذي تشهده العديد من بلدان العالم أو بالشكل الكبير الذي يثيره البعض، فلا أحد من السوريين يسكن في الكهوف ولا تحت الجسور ولا في المغاور، ولا في هياكل الباصات ولا في المقابر ويندر وجود مشردين، وإن وجدت حالات كهذه فهي معدودة على الأصابع على مستوى سورية، ولكنها موجودة بعشرات ومئات الآلاف في العديد من دول العالم، وحتى سكن الخيام خفّ كثيراً (إلا لمن يهوى ذلك فالرئيس الليبي يرفض الإقامة في أفخم المساكن والفنادق ولا يقيم إلا في الخيمة) و حالات السكن الأسري الجماعي قد خفت أيضاً، وغالباً تتسع بيوت السكن من هذا النوع لقاطنيها بشكل مألوف ومقبول، وما يقال عن تأخر العديد من الجمعيات والجهات المعنية بالسكن المؤسساتي والشبابي كلام في محله، ولكن أية تحقيقات صادقة يمكن أن تتم بهذا الشأن ستظهر أن أغلب المسجلين على هذه المساكن يسكنون حالياً في مساكن مقبولة، وكلنا يعلم أن نتائج تعداد المساكن لعام /2004/ أظهرت أنه يوجد في سورية قرابة /450/ ألف مسكن (متعددة المواصفات) خالية من السكان، ومع كل ذلك فالدولة تبدي اهتماماً كبيراً بالسكن، وقد أعلنت مؤخراً عن تشييد ضواحٍ ومدن وقرى سكنية جماعية جديدة لمصلحة مواطنيها وبسعر قريب من سعر التكلفة، فالمزيد من الحديث عن أزمة السكن هو تأزيم لها، وما هو قائم في طريقه للمعالجة.

الفقر: كثيرون يتحدثون عن فقر كبير في سورية، علماً أن درجة الفقر التي ظهرت من خلال نتائج مسوحات نفقات الأسرة المتتالية التي نفذها المكتب المركزي للإحصاء ليست مخيفة، وواقع الحال لا يظهر حالات فقر مدقع بالشكل الذي يثيره البعض، فالجوع حالة غير قائمة في سورية، وكلنا يعلم حجم الطعام المهدور لدى الكثير من الأسر وجمعيات حفظ النعمة لا تستطيع جمع كل هذا الفائض، وإذا جمعته لا تجد مجالاً لتوزيعه، والمحلات التجارية منتشرة في الريف والمدينة وتغص بجميع المواد الغذائية المتاحة أمام الجميع، وبأسعار هي الأرخص من نوعها على مستوى معظم بلدان العالم، ورواد هذه المحلات من مختلف المستويات الاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً متاجر الألبسة والمستلزمات المنزلية مورد تسوق لجميع مواطني القطر، ومن يعبر قرى ومدن سورية يندر أن ترى عينه مواطناً يرتدي رداءاً مرقوعاً، ويندر أن يجد مسكناً سورياً يخلو من أداة منزلية كهربائية، ويستحيل أن يجد طفلاً لم تتح له فرصة التعليم، أو مواطناً لا يجد مشفى تستقبله عند مرضه، وليس باستطاعة أحد أن يميز في الشارع بين غني وفقير، فاللباس يكاد يكون واحداً أو متقارباً جداً لجميع الناس، وعندما كان الفقر حقيقة قائمة كان الكثيرون يبحثون عمن يعملون في أرضه أو منشأته، مقابل قوت يومهم، ولكن هذه الحالات ليست موجودة قطعاً، فحالة الجوع مفقودة تماماً من جميع الأراضي السورية وأيضاً حالة العري إذ يندر أن تجد في الشارع من يرتدي بدلة مهترئة أو مرقعة، وقديماً كانت هذه الحالة قائمة كثيراً، ولم يكن الفقير يجد حرجاً في ذلك، و كانت هذه الرقع تظهر بوضوح على منطقتي المقعد والركب من اللباس، وكان يحدث ترقيعها أكثر من مرة ريثما يتم اهتراء اللباس بشكل كامل، حتى أن الأسر الغنية كانت تعمد لترقيع ثيابها بطريقة “الرتي” حيث كان يوجد خياطون مختصون “برتي” البقعة المهترئة من اللباس، وكانت البقعة “المرتية” ملحوظة لمن يدقق في البدلة، ولم يكن الغني يجد حرجاً في ذلك، وهذه الحالات أصبحت من الحكايات. وبالتالي فإن ما نشهده من تعمد البعض تأزيم مشكلة أو أكثر لا يصب في مصلحة البلد أياً كان من يصب الزيت على النار، ومن يتنكر للحرية وهو حر طليق في أقواله وأعماله، فلا غرابة أن يغادر مسكنه المعهود ويسكن في خيمة عند الأغراب، ويتهم الدولة بأنها طردته من مسكنه ويتجاهل نداءها له بالعودة، ويتهمها بأمور أخرى ولكن الشمس لا تغطى بغربال.

 

عبد اللطيف عباس شعبان

عضو جمعية العلوم الاقتصادية/ سورية

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]