مرتكبون بحاضنة اجتماعيّة..؟!!

ناظم عيد

أغلب الظن أننا في قلب دائرة خطر من النوع المركب و متعدد الرؤوس، عندما نستنتج أن محاولات الإصلاح الاقتصادي تبدو “كفراً إجرائياً وقيَمياً” في ثقافة تلقّينا الاجتماعي لها، وتصطدم بالترجمات المريضة لمفاهيم التراث التراحمي التي مازلنا نفاخر بها، و بتسليم أقرب إلى الحالة الغريزيّة القطيعيّة البغيضة، فـ “قطع الأعناق” ما زال في أعرافنا أقلّ شؤماً من قطع الأرزاق، بغض النظر عن ماهيّة هذه الأخيرة ومصادرها..!!

لسنا بحاجة إلى شواهد وأدلّة إثبات على تلبّسنا بهذه الحقيقة – التهمة – الموجعة، لكن من قبيل الطرفة سنذكّر بحادثة كنّا شهوداً عليها منذ أكثر من عشر سنوات، عندما تعرّضت موظفة مكلّفة بالإشراف على مجلّة متخصصة في وزارة المالية، لما يشبه الرّجم من قبل زملائها، لأنها تجرأت ونشرت حواراً أجرته مع مفتي الجمهوريّة، عنونته باقتباس على شكل فتوى، يؤكد أن المتهرّب ضريبياً “آثم شرعاً” .. حتى المقرّبين منها عاتبوها على “ارتكابها” الذي يندرج في خانة “قطع أرزاق” موظفي الوزارة، كما كل مكلّف ضريبياً في هذا البلد.

الواقع أن ثمة مؤشرات شبه يوميّة، تؤكد أننا لم نكن على صواب حين أسقطنا من حساباتنا – عفواً أو قصداً – مناقشة المعوقات البنيوية ببعدها الاجتماعي بالغ التشعّب، ونحن نمضي نحو تطبيقات واقعية لعناوين ومشاريع من قبيل الإصلاح أو معالجة الآفات الاقتصادية والإدارية التي نتعايش معها، و لم نتساءل عن الأسباب التي حالت دون نجاحنا، ليس الآن بل منذ عقود طويلة، أو ربما دار بيننا وبين أنفسنا مثل هذا الجدل، ووجدنا إجابات، لكنها كانت خافتة، همسناها همساً، ولم نجرؤ على إخراجها للعلن بصوتٍ عالٍ، لأنها “تجرّم” أعرافاً وقناعات سائدة على نطاقات واسعة الطيف في مجتمعنا ..؟؟

البيئة الاجتماعية للإصلاح عموماً…هي العنوان الجديد والاستحقاق الحسّاس الذي لابد من تناوله اليوم قبل الغد، لأنه لم يعد يحتمل تأجيل العلاج، خصوصاً أنه علاج مديد لا يقبل تجاهل شرط الزمن، في إعداده كبرنامج وفي تطبيقاته أيضاً.

هي مهمة ليست يسيرة على الإطلاق، لأنها تعني انعطافة حتميّة حادّة في النهج وفي اتجاهات الإصلاح، فنحن هنا أمام مسار ثانٍ يتّجه من الأدنى إلى الأعلى، لن يكون مؤداه إلى مجرّد إصلاح بل إلى تغيير حقيقي، وهذا مبدأ قديم ونظريّة راسخة، بما أفضت إليه تطبيقاتها من نتائج في دول كثيرة على امتداد هذا العالم.

لقد أضاع باحثو الاقتصاد والإدارة رشدنا بضجيجهم، عندما غرقوا وأغرقونا معهم، في دوامات رؤاهم الإصلاحية الأكاديمية النظرية الجاهزة والمنقولة من بلدان المنشأ، والمعزولة عن اعتبارات “البعد الثالث” أو العمق المتمثّل بخصوصيات البيئة المحلّية، واستطاع هؤلاء توليف بوصلة الإصلاح باتجاه واحد يستهدف البنى المؤسساتية بمعزل عن بيئتها الاجتماعية، ونذكر أن أحدهم كان يصرخ “وَصْفَته” صراخاً، زاعماً أن “شطف السلّم يكون من الأعلى إلى الأدنى”، وها نحن نبدي الإصرار تلو الإصرار على تطبيق هذه النظرية “العوراء” الأحادية والعقيمة بكل معنى الكلمة.

الآن بات من الحكمة أن نقتنع بأننا لن نوفّق بمعالجة الكثير من مشاكلنا الاقتصادية والإدارية، والتي أمست معضلات، إن لم نرسِ معالجات شعبية أفقية، وقد يتطلب الأمر البدء بمناهج دراسية مكثفة في المدارس، فمكافحة الفساد بكل مظاهره مثلاً، لا يمكن أن تكون إلّا بتربية جيل لافظ للظاهرة، على التوازي مع المعالجات الإجرائية الاحترازية والجزائية التقليدية.

للتربية دور، وللإعلام دور أيضاً، ولـ”قادة الرأي” بمختلف ماهياتهم في مجتمعنا دور بالغ الأهميّة، والأهم أن نبلور النهج والمناهج ونبدأ بالتطبيق، والمضي نحو ترسيخ قناعات وممارسات عامة، ترفض السلوك المنحرف ربطاً بمفاهيم جديدة بشأن “الإثم شرعاً” والجنوح اللاأخلاقي، وعندها ستكون الأحكام الجزائية الزاجرة مقبولة، بل مرحّب بها شعبياً، وستنطلق مكنة التطهير الذاتي في الأوساط الاجتماعية، على التوازي مع المكنة التنفيذية الرسميّة.

 

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]