البوّابة الأوسع لتسلل الفساد إلى أروقة مؤسسات الدولة..تتحدى القانون وتستظل بظلّه..

خاص – الخبير السوري :

كم أرهقتنا عمليات التلاعب بالمناقصات والمزايدات، والتي تصنف ضمن قضايا الفساد الثقيلة، لأنها الأكثر هدراً للمال العام، وتعدّ خطراً من العيار الثقيل أيضاً لأنها تمرّر عبر موظفين حكوميين كبار ومن الأجهزة الرقابية الحكومية ذاتها.

أما لماذا تعتبر هرم الفساد ؟ فلأنها وباختصار صفقات سرية تقدر قيمتها بملايين الليرات يعود ريعها لأشخاص من أصحاب النفوذ و”خفة اليد”، وذلك من أجل أن ترسو العملية على الراشي (الجهة الساعية للصفقة)، ناهيك عمّا ينتج عنها مستقبلاً من تطفيش لجهات الكفاءة والخبرة وتغييب للعدالة في منح الفرص، وفي الوقت نفسه تعبر في الحقيقة عن الجهود المتواضعة للحكومة في محاربة الفساد.

وعندما نكتشف أن هذه العمليات من التلاعب تشكل بين 50 و60 % من إجمالي كتلة الفساد في الدولة، حسب تصريحات مسؤول حكومي يوماً،  ندرك تماماً من أين أتت ثروات بعض الموظفين الحكوميين خلال أشهر معدودة، وبشكل أدق يبدو التلاعب في هذه العطاءات هو نتاج مجموعة متنفذة من رجال أعمال من القطاع الخاص وموظفين فاسدين من القطاع العام وأخرى تؤازرهم من أصحاب القرار.

وإذا أردنا أن نذكر ببعض أشكال التلاعب على سبيل المثال لا الحصر، تقفز إلى ذهننا الحادثة الشهيرة التي ارتكبتها الإدارة السابقة لإحدى شركاتنا الصناعية الحكومية منذ العام 2008، بحق الشركة وتواطؤ المحامي المسؤول عن تحصيل حقوق الشركة مع بعض التجار لتحصيل منافع شخصية عوضاً عن المصلحة العامة، حيث قامت بالتعاقد مع تاجر لتوريد 6 أطنان من مادة السائل غير مطابقة للمواصفات القياسية ودفتر الشروط الفنية، واتضح فيما بعد أنها عبارة عن فازلين لا يتجاوز سعر الطن الواحد منها 30 ألف ليرة سورية وليست الشمع السائل الذي حدد سعره العقدي بـ 395 ألف ليرة للطن الواحد، وبذلك يكون فارق السعر في هذه الصفقة المخالفة حوالي 2.2 مليون ليرة ذهبت لجيوب المخالفين، والحادثة أردناها مثالاً ولكنها قد لا تكون الأخطر والأكثر وضوحاً. ‏

السهل الممتنع

وقد يكون من المحال الاستغناء عن هذه الوسائل رغم كل ما يكتنفها من غموض وصعوبة إثبات الجرم في مثل هذه العمليات رغم كثرتها، لكونها ضرورية وذلك لعدة اعتبارات أهمها كما ذكرنا آنفاً تطبيق النظام التكافلي في توزيع الفرص وتمكين الإدارة من اختيار العرض الأفضل وبالتالي التعاقد مع شخص أهل لهذا التعاقد- إن صح التعبير- من الناحية المالية والفنية، والأهم من كل ذلك من وجهة نظر استاذ جامعي أن وسائل العطاءات (المناقصات، والمزايدات، واستدراج عروض أسعار، والتعاقد بالتراضي) تحافظ على المال في النهاية، ولم يخفِ الأستاذ الجامعي صعوبة فك هذه المعضلة، معتقداً أن المسألة ليست مسألة قانون وإنما نتيجة تزايد أعداد أصحاب النفوس الضعيفة في دوائر القرار، وقال: إن هذه الوسائل مجدية جداً في عمليات التعاقد إلا أن المشكلة الحقيقية في التعاطي معها على الأرض، أي بالأساليب الملتوية التي دمّرت روح المنافسة والشفافية مع مرور السنين.

ومن “البروفات” التي تحدث داخل الأبواب الموصدة قبل بدء عمليات العروض، إفشاء قيمة المبلغ المرصود للعملية من أحد لجان المشتريات في الشركة لجهة معينة مقابل رشوة، واتفاق ضمني بين أعضاء اللجنة على منح العطاء لتاجر ما وبالتالي حرمان أشخاص أكثر خبرة وكفاءة من العطاء أو سلعة ذات جودة أفضل، وبالنتيجة المتضرر الأول والأخير من هدر المال العام هو الشعب.

وقد يكون السؤال الذي يطرح نفسه، ما الحل إذاً لمكافحة أكبر عمليات الفساد، إذا ما اتفقنا جدلاً وسلّمنا بصعوبة كبيرة جداً في ضبط مثل هذه الحالات، وهل يجدي هنا العمل الفني للمنافسة ومنع الاحتكار الذي يقتصر على التقصي والمتابعة بعد عملية العطاء، أي بعد أن يكون الذي ضرب ضرب والذي هرب هرب، لكن بعضهم يرى أن هيئة المنافسة ليست جهة رقابية على العطاءات وليس مهمتها التدقيق في العطاء قبل توقيعه، وإنما دورها البحث فيما وراء العطاء ومن خلال الشكاوى وما يبث في وسائل الإعلام، مؤكداً أن المشكلة الأساسية التي مازالت تعاني منها الهيئة هي قلة المعلومات والشكاوى، وبشيء من المصارحة يكشف متابعون عن توصيات حكومية سابقة بمراعاة شعور القائمين على القطاع العام حيث تحل الأمور بالحوار والتراضي.

ومن باب حسن النية لم نبغ الصيد في بحيرة هيئة المنافسة ومنع الاحتكار التي لم يبلغ عمرها عامين بعد والتي مازالت تفتقر إلى الكادر الكفؤ والخبير في رصد مثل هذه القضايا الشائكة، وإنما قصدنا كيفية تعاطي الحكومة بشكل عام مع هذه القضايا، وما يمكن أن يفهم من بلاغها الأخير ومدى اهتمامها، والذي حدد التلاعب بالعطاءات وأهميتها ودور الهيئة في التحري والتقصي والتحقيق والرقابة وفرض العقوبات بحق المخالفين بالنسبة للعقود الموقعة من الدولة والأنشطة ذات الشأن.

الحل الأكثر نجاعة

وبعيداً عن القوانين والبلاغات ونزاهة التحكيم، القضايا الأكثر جدلاً منذ بدء تشكل الدولة الحديثة في التاريخ، ومن خلال اطلاعنا على تجارب بعض الدول في مكافحة مثل هذه الأنواع من الفساد، تبين أن أفضل الطرق وأكثرها نجاعة يتمثل بإجراء حملات إعلانية ضخمة للإخبار عن المناقصات والمزادات بإشراف أكثر من لجنة بقصد تحقيق الشفافية والعلانية وتكافؤ الفرص.

وعن مدى جدوى مثل هذه الإجراءات، يرى أحد القضاة السابقين (فضل عدم ذكر اسمه) أن الأهم خلق البيئة الصالحة بكل ما يتعلق بجوانب الحملات الإعلانية لأن المشكلة لم تكن يوماً في زاوية فاسدة معينة وفي العلاج الناجع لها، ورغم ذلك أكد أنه غير متشائم على اعتبار أنها تبقى في حدود الفردية ولم تصبح عمليات التلاعب بالمناقصات والمزايدات حالة عامة.

ومن وجهة نظر مغايرة تماماً، فإن أسباب تفاقم هذه المشكلة في القانون الحالي هي أنه عبارة عن لملمة لعدة قوانين كانت تحكم عقوداً متنوعة عرف عنها كثرة العيوب والنواقص، لا بل إن القانون القديم رقم 228 لعام 1969 برأي أستاذ قانون أفضل من الحالي، مقترحاً تشكيل لجنة قانونية مشكلة من مختصين نوعيين لدراسة القانون والبحث عن صيغ لسد الثغرات بالنص وجعلها أكثر وضوحاً وشفافية ما يصعب التلاعب بالعطاءات مستقبلاً.

وحتى نكون أكثر واقعية فإن عمليات المناقصات والمزايدات وإدراج عروض الشراء وكل ما يأتي تحت اسم عطاءات، لكي تكون نزيهة يجب توفر البيئة الصحية غير الملوثة، لنصل إلى جهات سواء أكانت شركات أم مؤسسات أم أفراداً أكثر أملاً في الكشف بنفسها عن أي فساد مادامت مقتنعة كل القناعة أنها تسلك طرقاً قانونيةً، ومن المؤكد أن ذلك بدوره يعطي أيضاً الأمل لمنظمات المجتمع المدني المنوط بها حماية الحقوق وكشف الفساد في أن تقوم بدورها دون يأس وكلل، وكذلك يجعلنا نعيد الثقة والاعتبار لأجهزتنا الرقابية بصفة خاصة.

إقرأ أيضاً:

“الرزق السوري المهدور” يضيع ويُضيّع معه مئات آلاف فرص العمل..

 

“الرزق السوري المهدور” يضيع ويُضيّع معه مئات آلاف فرص العمل..

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]