الدوام النصفي لموظفي الدولة “علاج بالكي” لمكافحة البطالة المقنعة وعجوزات بند الرواتب والأجور في سورية

 

الخبير السوري:

لا يبدو أننا نقف فعلياً على أبواب حل لمشكلة فائض العمالة في مؤسساتنا الحكومية، أي البطالة المقنعة التي تعصف بنا، بل على الأرجح ثمة صعود في تعقيدات هذه المشكلة، على خلفية إمعان الحكومة في نهج التعيين الاجتماعي، كبرنامج تشغيل الشباب الخريجين دون أن يكون ثمة حاجة فعلية لهؤلاء.

هذا في وقتٍ تنشط في الذاكرة والقريحة الحكومية في البحث عن حلول للمشكلة المستعصية على الحل أو هكذا بدت.

بالفعل ينظر الكثير من المتابعين إلى البطالة والبطالة المقنّعة على اعتبارها مشكلة مستعصية عن الحلّ، إلا أن بعض الاقتصاديين وجدوا في فرضية الدوام النصفي حلاً لتلك المعضلة التي تهدر القوة البشرية للطاقات الشبابية بشكل أساسي، فالفكرة تقوم على موظف يعمل بما لا يتجاوز أربع ساعات يومياً، على أن يتم توظيف آخرين بالمكان ذاته، أي أن يتم استيعاب نحو 1.2 مليون موظف إضافي في مؤسسات الدولة على سبيل المثال، ولكن هناك جملة من الأسئلة يطرحها مراقبون: هل تعتبر هذه الآلية واقعية؟! وهل يمكن تطبيقها في الظروف الحالية؟! وما هي البيئة التي يجب توفيرها لمثل هذا القرار قبل اتخاذه؟! وهل الأسلوب الاختياري للدوام النصفي كقانون التقاعد المبكر الطريقة الأسلم والأنسب للبدء في هكذا إجراء؟!

 

إدارة أزمة

يرى أكاديميون خاضوا في تفاصيل المشكلة وحلولها، أن ما يطالب به البعض من التوظيف بدوام نصفي وفق ساعات محددة، لاستيعاب العدد الكبير من طالبي العمل، هو أسلوب جيد وجديد لإدارة أزمة البطالة، ومطبق في العديد من الدول، رغم أنه أتى بنتائج إيجابية في دول قليلة، وخاصة بالنسبة للمرأة العاملة، ولكن من الصعب تطبيقه خاصة في ظلّ هذه الظروف التي تمرّ بها البلاد، فهو يحتاج إلى استقرار، وإصلاح اقتصادي واجتماعي ومؤسساتي بالدرجة الأولى، فالمشكلة ليست بتحديد عدد ساعات الدوام النصفي أو الكامل، خاصة أن شكل العمل الوظيفي التقليدي ذي الطبيعة الدائمة تغيّر في العديد من دول العالم، ليتحوّل إلى شكل عقد مؤقت فيما بين المؤسسة والعامل لإنجاز عمل ما خلال فترة محدودة لقاء أجور متفق عليها، نتيجة لذلك يتغيّر العقد الاجتماعي الذي يهتم بالأجور العالية، وبالاستثمار، والاستقرار الوظيفي، والترقية المهنية المتسلسلة، ليحل محله العمل من خلال الاتفاق بين الأطراف بحيث ينفذ العمل في المنزل أو المكتب الخاص أو في بعض المراكز التخصصية سواء كان ذلك للقطاع الخاص أم العام، الأمر الذي تطلب تغييراً جوهرياً في هيكل الوظائف والمهارات المطلوبة للعمل من خلال إعادة تأهيل مستمرة للعناصر البشرية، لتصبح قادرة على استدعاء المعلومات والبيانات المطلوبة والتي تساعدها في صياغة القرارات الإدارية والفنية الصحيحة لمعالجة كافة المشكلات والمعوقات التي تعترضها..

والواضح أننا أصبحنا اليوم نهتم بالبعد الوظيفي الزماني للوظيفة بمعزل عن البعد المكاني حيث أصبح الموظف الذي يعمل بالقطاع العام والخاص ينجز عمله من أي مكان يريد.

 

متطلبات

قد يرفض البعض فكرة الدوام النصفي على اعتبار أن الرواتب والأجور الحالية للموظفين لا تكفي، فكيف إذا ما جرى توزيعها على موظفيّن اثنين بدلاً من واحد، ولذلك، فهل تصحيح العلاقة وترميم الفجوة بين كتلتي الرواتب والأجور قياساً بالأسعار نقطة الانطلاق الضرورية والمبدئية لمثل هذا الإجراء؟!

وعند هذه النقطة يوضح أحد خبراء التنمية الإدارية أنه وبهذه الطريقة سيتم استيعاب الكثير من طالبي العمل، ولكن على حساب الرواتب والأجور والتعويضات، وهنا سنكون أمام مشكلة التوافق بين الرواتب والأجور وأعباء العمل المكلّف بها العامل، وهذا يتطلب بناء نظام رواتب وأجور ومكافآت وحوافز مشجعة على أرضية التطوير الذاتي لمهارات العاملين في الجهات العامة وكفاءتهم المهنية، والذي يضمن المستوى المعيشي العالي الذي يرضي جميع المستويات، وقد يشمل هذا النظام آليات تقييم عادلة وعملية للأداء وللمهارات الشخصية، وتقديم المكافآت والحوافز المناسبة للنتائج..

الصغيرة حلٌّ

متوالية الحلول التي تظهر على سطح طاولات البحث تتزايد كلما طال البحث والتمحيص أكثر فأكثر، فثمة من يرى أن هناك حلولاً أخرى غير حل الدوام النصفي، ويتجه نحو خيارات أكثر خدمةً للتنمية، وغير ” جراحية” أي لا تثير جدلاً في الأوساط الحكومية والعامة، بين مؤيدٍ ومعارض للفكرة.

إذ يرى بعضهم أن الدوام النصفي ليس وحده من يشكّل الآلية والإجراء الحكومي المقبول لحل أزمة البطالة المزمنة التي تعاني منها البلاد، بل إن الحل الأساسي لمشكلة البطالة من وجهة نظر خبراء اقتصاديين ليست بتحديد ساعات العمل، أو تقليص دوام الموظفين، أو تحديد أيام العطل أو الدوام المسائي.. وغير ذلك، بل يكمن في الاعتماد على المشروعات الصغيرة والمتوسطة وتشجيعها من جهة، وإدارة مؤسسات القطاع العام بفكر القطاع الخاص من جهة ثانية، من حيث التركيز على الربحية كما التركيز على الجانب الاجتماعي، فذلك يمثل نقطة البداية لتطور أي دولة، وبما يساهم في حل مشكلة البطالة، وخاصة البطالة المقنعة، فلا بد من تشجيع الشباب على العمل الخاص بهم، وتقديم الحوافز والمغريات لذلك، وأن يتم ذلك بطريقة علمية مُمنهجة قائمة على دراسات وليس على اقتراحات وتقديرات أشخاص، وستكون النتيجة مبهرة، والأمثلة على ذلك كثيرة في دول العالم، لكن رغم النتائج التي يعد بها هكذا حل، وهي نتائج معلومة للجميع، بقيت الإرادة الحكومية باتجاه تطبيقاته، فاترة إلى حدود من شأنها إثارة الريبة في أسباب نزوه السلطة التنفيذية للغرق في قضايا غير استراتيجية وترك هذا الموضوع الاستراتيجي دونما عناية وحل جذري!!؟؟

اختصار وتقليص

ويتحدث أكاديميون ومتخصصون، عن إمكانية الاعتماد على استراتيجيات تخفيض قوة العمل الكثيرة والمتعددة، ومنها وسائل التناقص الطبيعي، وحوافز التقاعد المبكر، والتسريح الاختياري والإجباري، والنقل وإعادة توزيع العمالة، والتدريب وإعادة التدريب، واستراتيجية وإعادة تصميم الأعمال، وثقافة التوجه بالجودة، وثقافة التوجه بالمواطن، وتخفيض قوة العمل بواسطة التقاعد بدلاً من الاستغناء، وسياسة الاستغناء المؤقت مع رفع الأجور أو خفض الأجور، وتجميد التعيينات، وإلغاء عقود العمالة المؤقتة، والتخلص من العاملين ذوي الأداء المنخفض، وتلك تحتاج إلى تقييم أداء حقيقي، مع الأخذ بالاعتبار مراعاة الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والنتائج السلبية لمثل هذه الأساليب على العاملين وعلى المجتمع..

ظروف متغيّرة

يلفت الباحثون في شؤون الموارد البشرية في سورية، إلى أنه لا بد من الاعتراف بأن الظروف الآن اختلفت سواء العمل في القطاع العام أم الخاص لكي لا نحمّل الظروف المسؤولية كاملة، فالطفرة في عالم التكنولوجيا المعاصرة غيرّت إلى حدّ كبير من طرائق وأساليب وأدوات الأعمال الإنتاجية منها والإدارية، وأصبحت المصانع ذات حجوم قليلة ولكن بطاقات إنتاجية عالية قادرة على إنتاج تشكيلات سلعية متنوعة في زمن قياسي نسبياً، وبما يحقق وفورات كبيرة في التكاليف المادية والبشرية، وبالمقابل فإن التطور التقاني – العلمي السريع ساهم في خلق فرص جديدة للعمل بشكل غير اعتيادي، وفرض إعادة هيكلة الأعمال والوظائف في غالبية المنظمات والمؤسسات الإنتاجية والخدمية..

وعلى صعيد الموارد البشرية، يرى المختصون أن المنظمات أصبحت توليها أهمية خاصة لجهة التعليم والتدريب والتأهيل، أو لجهة تفضيل العمل في إطار الفريق المتكامل، أو لجهة اعتبار أن الموارد البشرية هي الثروة الأعظم والأهم بالمقارنة مع بقية عناصر الإنتاج الأخرى، أو لجهة إعطاء الأفراد الحرية المطلوبة التي تمكنهم من أداء مهامهم بالشكل المطلوب بغض النظر عن لوائح وأنظمة وقوانين العمل وأوقات الدوام، وغير ذلك من إطلاق حريات الإبداع والابتكار على الصعيد الفردي والمؤسسي، وبالمزيد من الاستثمارات في القوى البشرية كونها وحدها التي تملك الخبرة والمعرفة التي تعتبر رأس المال الأول للمؤسسات التي تركز كثيراً على ما يسمى باقتصاد المعرفة، والذي يحقق في حال استخدامه بشكل صحيح أفضل النتائج من حيث المردود والعائدية الاقتصادية.

تشاركية في المسؤولية

الآن بات الكثير من الاختصاصيين والباحثين في الأدبيات الاقتصادية والإدارية، يغيرون آلية التفكير التي يعتمدها البعض، والتي تستند إلى أن الدولة هي المكلّفة بتأمين فرص العمل لهم، حيث أشار إلى أن الدولة لم تعد لوحدها المسؤولة عن التوظيف، وتأمين العمل، وتحقيق التشغيل الاجتماعي، فالمسؤولية أصبحت مشتركة بين العامل والدولة والمؤسسة العامة أو الخاصة كلٍ من جانبه، ولكي تتطور مؤسساتنا فهي بحاجة إلى عمل كبير في هذا الاتجاه، ونقطة البداية هي إعادة هيكلة كاملة لهذه المؤسسات التي تفتقد إلى فلسفة إدارية ورؤية حديثة في هذا المجال سواء من ناحية إعادة هيكلة تنظيمية في ظل الاعتماد لغاية الآن على المركزية، على الرغم مما تم بذله من جهود لتطبيق أسلوب اللامركزية، أو من ناحية تقييم العاملين القائم على الأقدمية دون النظر في غالبية الأحيان إلى الكفاءة في العمل، أو من ناحية وضع حدود فاصلة واضحة بين السلطات والواجبات والمسؤوليات نتيجة تداخل الأدوار بين السلطات المركزية والمحلية مع ضرورة اعتماد مؤسساتنا لثقافة التوجه بالمواطن (أي اعتبار الحكومة مركزاً لتوريد الخدمات)، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يجب إعادة النظر في قوانين العمل والعاملين لسد الثغرات وتوفير الرواتب والحوافز المالية والمكافآت المناسبة لتأمين المستوى المعيشي المناسب لموظفي الجهات العامة ما يساعد في رفع المستويات في القطاع الخاص ومنه يتم التوازن في الدخل ويتيح فرص عمل أكثر للحدّ من البطالة، مع الأخذ بالاعتبار ضرورة الإسراع في إعادة النظر بالسياسات والقوانين والأنظمة الإدارية النافذة وتعديلاتها، التي تتصف بالبطء الشديد، الأمر الذي يفتح الباب واسعاً أمام الفساد والمحسوبيات في تفسيرها، ويعطّل التفاعل الإيجابي مع المواطنين، في وقت يتسرب فيه إداريون غير أكفاء إلى مراكز اتخاذ القرار، ما يضعف ثقة المواطن بالإدارة الحكومية ويفتح مجال التهاون الشديد في الأوامر الإدارية والالتزام بتطبيقها…

من هنا لا يبدو أن الحلول المطلوبة لمشكلة البطالة بشكليها الظاهر والمقنع، لا يبدو أنها ممكنة عبر سلوك مسارات أحادية الاتجاه، بل لا بد من وضع استراتيجية متكاملة المسارات ومتعددة الاتجاهات للحصول على نتائج راسخة، يمكن من خلالها عدم حصول أخطاء في أماكن أخرى لأدى البدء بمعالجات مجتزأة في مكان ما.

فحل مشكلة البطالة يتطلب تلبية كل الاستحقاقات التي أشار إليها الباحثون أعلاه، وهي استحقاقات تتطلب استنفار الفريق الحكومي بشكل متكامل وليس إلقاء الوزر على وزارة بعينها، لتتلقى الاتهامات بالفشل!!

الخبير السوري

 

 

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]