مذيعو نعوات يتسللون إلى غرف البحث والمراصد السورية…

ناظم عيد
لا ندري إن كانت بشرى سعيدة نزفها لأنفسنا، ونحن نتنبأ بأن سماءنا شرعت بإمطارنا دراساتٍ ورؤى من كل طعم ولون، وأن ثمة “مراصد” متأهبة لإغراقنا بفورة معطيات وأرقام، تنفّس احتقان ست سنوات من الصمت البحثي مضت، حيث لا صوت كان يعلو على صوت الرصاص.
نطقت أخيراً مراكزنا البحثية بعد طول تفكّر و تحليل، لتطلق قراءاتها حزماً حزماً، إلّا أن المفاجئ والمريب أنها كلّها اجتهدت لتخبرنا بفحوى واحدة مفادها أننا في أزمة، دون أن نلمس في دراسة واحدة من تلك التي يُصفع بها الشارع صفعاً، أي استشرافٍ مستقبلي، أو رؤية إصلاحية أو حل يذلل ولو نزراً يسيراً من ركام المشكلات التي تضاهي ركام الدمار الذي خلّفته الحرب القذرة على بلدنا.
لا نظن أن الدولة أو الحكومة أو حتى المواطن، ينتظرون من باحث أو مركز بحثي أو مرصد، أن يوصّف تفاصيل ما نحن فيه، ويوثّق معطيات المشهد السوداوي، فالمواطن يعلم تماماً أنه مأزوم في معيشته ويومياته الصعبة، والحكومة على دراية بالخلل المقيم في السوق وفي مختلف القطاعات الاقتصادية والإدارية والخدمية، والدولة لديها تصوّر كامل عن الإفرازات الاجتماعية الكئيبة للأزمة التي مرّت فيها البلاد، وبالتالي يمسي الإمعان في إنتاج الصور والوقائع وتبنّي الأرقام السوداء وتصديرها إعلامياً، نكءٌ للجروح وتذكير بالمصيبة، بل وأكثر من ذلك تعويم حالة إحباط التي من شأنها النيل من صمود دولة وشعب قدّموا أنموذجاً فريداً في الصبر والتحمل ومقاومة الإرهاب.
قد نكون بحاجة اليوم، إلى توجيه ملزم لكل من يقدم نفسه باحثاً أو مركز أبحاث أو مرصداً بحثياً، بما في ذلك من يعتدّون بالتبنّي من قبل جهات رسميّة أو شبه رسميّة، للإقلاع عن الاستعراض في توصيف الواقع المؤلم، وتسخير إمكاناتهم ومهاراتهم و خبراتهم – على تفاوتها وبغض النظر عن الجدارة – نحو تقديم رؤى و مقترحات متأنية و”محوكمة” تستهدف إعادة ترتيب البنى الاجتماعية والاقتصادية، وفق نهج استدراكي لهفوات ما قبل الأزمة، ثم إصلاحي لما رتبته الأخيرة من أوزار وظلال ثقيلة جداً.
فنحن جميعاً بحاجة اليوم لفريق بمهارات عالية، يقدم نصائحه للحكومة حول أفضل الخيارات لتحسين المستوى المعيشي للمواطن دون زيادة الرواتب والأجور مثلاً، بما أن مثل هذا الخيار غير ممكن في المدى المنظور، ثم إنه علاج مجتزأ لن يصل إلى كل المواطنين.
كما أننا بحاجة لمن يقدم رؤية سريعة ومرنة عن أقصر السبل لضمان ضبط أسواق المستهلك وإعادة التوازن لها، والإجابة على تساؤلات إشكالية أخرى كثيرة جداً، حول خيارات نشر التنمية الأفقية، وتحفيز مطارح الإنتاج، وإنعاش الصادرات، واستفسارات مصيرية غزيرة يحفل بها كل قطاع من قطاعات الدولة، بدلاً من إعداد تقارير “الردح والشكوى”، و إذاعة النعوات، واستحضار الأوجاع، والتحالف مع “الفيس بوك” لبث الطاقات السلبيّة في أوصال مجتمع يبحث عن نهايات أكيدة للنفق المظلم الذي أدخلته فيه الحرب.
ففي أعرافنا الاجتماعية ثمة توافق على أن “التعزية بعد ثلاث تذكير بالمصيبة” ، ونحن بحاجة ماسّة الآن للانطلاق والتطلع نحو مستقبل جديد لبلدنا ، بعيداً عن كل ما يدعو للارتكاس والدوران في الحلقات المفرغة التي نشأت في الماضي القريب وتقدم نفسها في حيثيات الواقع القاسي.

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]