هل جاء دور المستهلك لـ “تأديب” التاجر في سورية..؟؟!

 

 

قد يكون من الصعوبة البالغة تقدير خسارة المواطنين في زحام التشابكات التي تعتري السوق، ليس بفعل ارتفاع الأسعار الجنوني للسلع والخدمات وإنما بفعل ميول المواطنين للاكتناز وجنوح التجار لفوران الأسعار.

فالمواطنون (المحدودو الدخل) بفعل تبعات الأزمة، وعلى مبدأ الفعل وردّ الفعل والديناميكية العفوية توجهوا إلى ضغط النفقات، وبفعل غير إرادي تحوّلت مكتنزاتهم ونفقاتهم المضغوطة أصلاً إلى جيوب التجار نتيجة غياب الترشيد والوعي الاستهلاكي، عبر انتهاج سلوك غير مدرك تحكمه الإشاعات التي يطلقها من في نفوسهم غايات معينة غير اقتصادية، أو التي يطلقها بعض التجار لتصريف سلع مخازنهم وتحقيق أرباح مضاعفة .

تدوير

هناك آراءٌ متابعة ذهبت إلى القول: إن مسؤولية ارتفاع الأسعار تقع على أطراف ثلاثة هي المواطن غير الواعي ويتحمل 20 % والتاجر الجشع 40 % والحكومة 40 %، أما بالنسبة للمنعكسات السلبية فتتوقف إلى حدٍّ كبير على أداء هذه الأطراف الثلاثة وخاصةً الحكومة والبنك المركزي باعتباره أكبر من يبيع ويشتري القطع الأجنبي.

فالمواطن أثبت عدم وعيه اقتصادياً ولا يريد تغيير نمطه الاستهلاكي وسلوكه الشرائي بما يتناسب مع الأزمة الحاصلة، وهناك طرف ثانٍ يتمثل بشريحة واسعة من تجار الأزمة الكبار وغيرهم من الجشعين الذين تهربوا من الضريبة بمئات المليارات من الليرات السورية في السنوات الماضية، والآن يتاجرون بالأزمة بطريقة غير أخلاقية ولا وطنية ليحصلوا على مئات المليارات الأخرى على مرأى ومسمع من أجهزة حكومية رقابية تموينية مترهّلة بسبب فسادها من جهة وعدم كفاءتها من جهة أخرى، وهناك طرف ثالث يتعلق بالأداء الحكومي القاصر الذي يعمل كأنه في زمن عدم وجود الأزمة وهنا لبُّ المشكلة.

هشاشة

ليست قلة الوعي السبب الأساسي في نزيف الجيوب وإنما غياب الثقة في التصريحات الاقتصادية الملامسة لمعيشة المواطن التي تركته لقمة سهلة للشائعات، وعند أول شائعة يقوم بتحويل مدخراته القليلة إلى جيوب التجار من خلال شرائه بأسعار مضاعفة يفرضها محتكرو السلعة موادَّ وسلعاً غذائية سريعة الكساد وتعميرها في (بيت مونته) خوفاً من انقطاع المادة، وهذه الكميات الزائدة تتعرض للتلف فيعود إلى شراء سلع مماثلة وباستدانة ثمنها أحياناً بعد استنزاف مكتنزاته وتناقص القدرة الشرائية وتآكل الرواتب والأجور. ومن خلال ذلك وفي عملية سلب منظمة من مافيات الأسعار تُنهب أموال شرائح واسعة وتحوّل إلى خزائن التجار دون وثائق أو حجج إدانة لهم .

ترهُّل

المتابع يرى أن حركة الأسواق تشي بأن المستهلك في ظل غياب التوعية وقف حائراً ومتسائلاً، هل ما يحصل حالياً في الأسواق من زيادات كبيرة هو بسبب تحرير السلع والأسعار أم لأسباب أخرى، فهناك عرض كثيف وطلب قليل ومع هذا تبقى الأسعار مرتفعة وفي تزايد مستمر، ما يعني أن هناك خللاً ما يؤدي إلى تعطيل قانون العرض والطلب أحياناً.

وأمام ذلك لا دور فاعلاً لوزارة الاقتصاد والتجارة الداخلية أو لجمعية حماية المستهلك رغم كل الاهتزازات التي صدَّعت أركان السوق، فلا تدخلات تعيد التوازن ولا جزاءات أو عقوبات واضحة أو حتى شروط يلتزم بها البائع يمكن الاهتداء بها والاستناد إليها، وهناك اشتراطات تتعلق بالكثير من السلع والبضائع التي لابد من إطلاع المستهلك على تفاصيلها كاملة لكي يدفع بدوره ثمن سلعة يعرف مقدماً مكوناتها وإيجابياتها وحتى سلبياتها.

وهنا نتساءل: أين التنسيق بين مديرية حماية المستهلك وهيئة المواصفات والمقاييس وجمعية حماية المستهلك وغيرها من الجهات المعنية، ولماذا نصدر للمستهلك كل عام أرقاماً مجردة فقط وإن سمع بها لا يعرف فكَّ رموزها وتتبارى الجهات الرقابية لتسطير أرقام عن مخالفات لم نرَ من ردعها فاعلية.

إجراءٌ مناهضٌ للمستهلك

مصادر جمعية حماية المستهلك ترى أن تحرير الأسعار في الأسواق جاء ضد مصلحة المستهلك لأن الهدف الحقيقي كان خلق المنافسة وليس ارتفاع السلع إلى حد أعلى من المقبول لأنه لم يكن هناك تهيئة لذلك، فنتيجة إتباع اقتصاد السوق خلال سنوات ما قبل الأزمة تحررت أسعار أكثر من 85 % من المواد وبالتالي لم تعد تتدخل الحكومة بموضوع التسعير، والقوانين المتعلقة بحماية المستهلك لم تشر إلى هذه الناحية، وعملياً لا تستطيع وزارة التجارة الداخلية  ولا جمعية حماية المستهلك –تضيف المصادر- أن تتدخل في الأسعار المحررة التي تخضع لآلية السوق ولقانون الطلب والعرض ولم تتم توعية المستهلك ولا المستورد ولا البائع بحيثيات تحرير الأسعار أي لم تتم التهيئة النفسية، فاعتبر البائع أنه لا رقيب ولا ضابط يردع من يرغب في التلاعب ما دامت الأسعار قد حررت، فتحول الثقل إلى طرف واحد وهو البائع أي المعادلة كلها أصبحت لمصلحته.

ومع غياب التوعية الحقيقية للمستهلك ترى مصادر الجمعية أن يكون لديه حماية ذاتية ويدافع عن حقوقه لأنه هو أول من يحمي نفسه من الارتهان للأسواق، فعندما يتأكد من بطاقة بيان السلعة ومواصفاتها وصلاحيتها يكون قد ساهم بحماية نفسه من الغش والتدليس وخاصة مع تعدد السلع وتنوعها ومع التقليد، ويضيف: إن فكرة عدم استجابة الجهات الرقابية لشكوى المستهلك تقصير من الأخير بحق نفسه لأن الجهات الرقابية اليوم تستجيب لأي شكوى والقانون يكفل الحقوق .

أما وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك فتقول: إن إستراتيجيتها في حماية المستهلك تنطلق من تغيير الذهنية في العمل لمصلحته عبر آلية الحفاظ على القانون وخدمة المواطن سواء أكان المصنع أم المستورد أم التاجر أم البائع أم المشتري. لكن هل حاولت الوزارة القيام بحملات توعية (جدية) بحقوق المستهلك وواجباته أم إن هذا التغييب له أسباب ما ورائية .

صحيح أن الظروف الحالية يمكن أن تكون سبباً من أسباب غلاء الأسعار لكن على الأقل يجب أن تتحصَّن الجهات المشرفة على حركة الأسواق بآليات فاعلة إن لم تمنع الاختلال فإنها تخففه على الأقل، وحتى الآن لم نلمس أياً من هذه الآليات وكأن نزعة التجار للاحتكار والتلاعب تفرض سطوتها وتحيّد هذه الجهات.

مناورة

هناك مصطلحٌ جديد لا يزال غريباً عن مسمع المستهلك المحلي ولم يُجِدْ بعدُ استخدامه، وهو المقاطعة كجزء من الوعي الاستهلاكي، هذه الثقافة لم تعمّم بعدُ مع أنها سلاح فعال لحماية المستهلك الذاتية. وهنا يؤكد مختصون أن غياب ثقافة المقاطعة التلقائية من المستهلك للمنتجات التي تم رفع أسعارها ودون أي حملات تدعو إلى ذلك هو أحد أهم أسباب فشل المقاطعة الشعبية، وهو ما جعل التجار والشركات يتشجعون في رفع أسعار منتجاتهم وعدم اهتمامهم لما يقوم به المستهلك من مطالبات، فهؤلاء على علم مسبق أن المستهلك لن يستمر زمناً طويلاً في المقاطع حتى يعود فيرضخ للأسعار الجديدة.

وحدث ذات مرة أن دعت جمعية حماية المستهلك إلى مقاطعة اللحوم التي ارتفعت أسعارها دون مبرر، لكن تلك الحملة كانت فاشلة عملياً والسبب هو المتضررون ذاتهم، نتيجة لعدم تكاتفهم وعدم استمرارهم في مقاطعة المادة لفترة طويلة. ونقارن تجربتنا المتواضعة هنا مع تجربة مقاطعة المستهلك الأرجنتيني لتجار البيض منذ سنوات التي يستشهد بها الاقتصاديون، لتأكيد مدى التأثير الناتج عن امتناع المستهلكين عن شراء منتج معين لفترة زمنية ممتدة، حينها ارتفعت أسعار البيض بعد أن اتفق جميع التجار وأصحاب مزارع الدواجن على رفع سعرها في وقت واحد، ما جعل المواطن الأرجنتيني يتراجع عن الشراء بشكل جماعي ودون أي دعوات أو حملات للمقاطعة، مع أن التجار حاولوا المواصلة وتحديهم بالإبقاء على الأسعار مرتفعة، إلا أنهم خضعوا لإرادة المستهلكين بعد اكتشافهم أن كميات البيض الموجودة في الأسواق فسدت، إضافة إلى وجود كميات أخرى كبيرة، فأرجعوا السعر إلى ما كان عليه، بعدها واصل الأرجنتينيون المقاطعة وعدم شراء البيض بهدف “تأديب” التجار الذين قاموا بتخفيض السعر مرغمين أكثر من مرة، مع تقديم اعتذار رسمي في الصحف ليتمكن المستهلك من مواجهة جشع التجار ويشتري البيض بتخفيض 75 % من سعره الأصلي، إضافة لإرسال تحذير واضح وصريح لجميع تجار السلع الأخرى بعدم محاولة التلاعب بالأسعار.

سلاحٌ فعّال

وتؤكد مصادر جمعية حماية المستهلك أن مقاطعة السلع التي ترتفع أسعارها دون مبرر هي أمضى من أي سلاح وأعلى مستويات الحماية الذاتية، كذلك على المستهلك أن ينوّع ويكثر الاطلاع على السلع وألا يشتري من مكان معين وينتقي ما يناسب حاجته وأن يعي مصلحته ويكون دقيقاً في اختياراته وخاصة المواد الغذائية .

وتضيف: إن مقاطعة المنتجات التي تشهد تلاعباً بالأسعار من السياسات القوية التي يلجأ إليها المستهلكون للضغط على التجار والشركات؛ إلا أنّ هذه الحملات تحتاج إلى وعي وقوة كي تحقق أهدافها، وهي حق مشروع للمستهلك الذي يرى أن هناك تلاعباً بالأسعار في ظل غياب الرقابة الجادة من الجهات ذات الاختصاص لقمع ارتفاع الأسعار بشكل غير مبرر.

لكن إنجاح حملات المقاطعة يحتاج إلى ثقافة استهلاك ومطالبة بحقوق بنظر خبراء التسويق، من خلال حسّ المسؤولية لدى كل مواطن الذي يجعله يقوم باستبدال أي سلعة يجد أن سعرها قد ارتفع دون مبرر، مع عدم الحاجة لوجود شخص أو جهة تدعو إلى ضرورة المقاطعة، كما يحدث عند الأسواق من قيام بعضهم بنشر منشورات لمقاطعة منتج معين دون تفاعل أو اهتمام من المستهلك الذي من المفترض أن يقاطع بشكل ذاتي لتكون النتيجة فعّالة ومجدية.

إذا كانت الجهات المعنية بالرقابة غائبة أو مغيّبة يمكن لمكونات اجتماعية أخرى أن تقوم بهذا الدور وتحقق حماية ذاتية، وبحضور الغاية لا تُعدم الوسيلة، فهناك طرق كثيرة لتحقيق هذه الحماية بدل الشكوى غير المسموعة عبر تشكيل مجموعات توعية تبدأ من ربات المنازل أو من الموظفين في كل مؤسسة، أو عبر المدارس من خلال منع الطلاب من شراء منتج معين على اعتبار أن المبادرة بالحماية خير من استجدائها .

الخبير السوري

 

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]