الأفق ليس مسدوداً بل المسارات مازالت عسيرة.. الصناعة الوطنية تدور في حلقات إصلاحية مغلقة.. وتراكم المشكلات يزيد من التحديات

 

 

دمشق – الخبير السوري:

الحديث عن أوجاع الصناعة مع الدكتور حسين القاضي له طعم غير وذو شجون وأحزان وذكريات أليمة، كيف لا وهو ابن المؤسسة وشيخ كار في الصناعة، وعايش عزها وشهر عسلها حتى أمست خردة.. الرجل لم يكتفِ بالتوصيف، وإنما وضع يده على الجرح بكل  شجاعة، فقد كان رأيه نابضاً بالحقائق، والوقائع التي نعيش تفاصيلها اليوم، واللافت أن حديث القاضي لم يكن من باب موقعه المسؤول كونه “وزير سابق للصناعة وهو الأدرى بشعابها”، بل من باب المسؤولية الوطنية، فهو مازال يصر على أن صناعتنا عريقة واليد العاملة فيها مهنية وخبراتها متراكمة وأنها كانت من أولى صناعات الوطن العربي والشرق منذ الاستقلال، وشهدت نهوضاً صناعياً كبيراً، وقد حققت نتائج رائعة وخاصة في مجال الغزل والنسيج والصناعات الغذائية ومواد البناء، لكن القطاع العام بقي سنوات طويلة جامداً من الناحية الإدارية والاستراتيجية رغم ما انفق عليه من استثمارات مالية، وحين جاءت الأزمة  التي تعاني منها البلاد منذ عام 2011  وأتت على ما تبقى،  ومع ذلك فإن الظرف الراهن هو الظرف المناسب لإعادة تنظيم الصناعة الوطنية وإعادة اعتبارها لتكون صناعة منافسة ورائدة تمهيداً لمشاركتها في إعادة البناء الموعود في المستقبل القريب.

ورقة التوت

ومن كلام القاضي الصريح والموجع من والمثلج للقلب من ناحية ثقته بخميرة الصناعة السورية إلى كلام  الباحث والخبير الاقتصادي عابد فضلية  “كلية الاقتصاد ”  الذي نزع ورقة التوت عما تبقى من عورة الصناعة، إن صح التعبير، معترفاً بمعاناة القطاع العام الصناعي من مشاكل مزمنة تراكمت على مر عدة عقود، وعلى الرغم من ذلك لا توجد حتى الآن دراسة شاملة معمّقة أو تقييم موضوعي شفاف عن واقع هذا القطاع الذي عانى من الإهمال خلال العقد الأخير من خلال عدم جدية الحكومات في إصلاحه ودعمه، لذلك بقيت محاولات الإصلاح أمام الأبواب المغلقة للجهات الوصائية وأمام رفضه سياسات التجديد والإبدال وشفط وزارة المالية لأي فائض تحققه الشركات التابعة لوزارة الصناعة لتدخل معظم شركات هذا القطاع في نفق الغيبوبة والعطالة والتعثر والخسارة  لتصل إلى الموت السريري اليوم، وقد أضافت الأزمة الحالية مشاكل إضافية إلى مشاكلها المتراكمة المزمنة لتؤدي بها إلى مزيد من الاستنزاف والخسائر وتثخن من جراحها، وخاصة بعد تعرّض أكثر من 70 % من شركات القطاع العام والخاص للتخريب والتعطيل.

 

تجار

ما باح به القاضي وبق فضلية آخر بحصاته، أكمل رد غرفة صناعة دمشق وريفها من إرث صناعي، رغم مسحة الدبلوماسية على ما تبقى من ضريح الصناعة، معترفاً-أي الرد- وإن كان بشكل مبطن دون غضاضة بحجم الضرر في القطاع الصناعي وأن أقل من40% من الصناعيين المسجلين في الغرفة استطاعت الغرفة التواصل معهم ومازالوا يعملون، ولكن بطاقة جزئية من طاقاتهم الإنتاجية الاعتيادية، والكثير منهم اضطروا للانتقال للعمل بمكان أكثر أماناً داخل البلاد، وإن كان  بمساحة أصغر بكثير وبطاقة إنتاجية متواضعة، وبالتالي فإن هناك على الأقل 70% من البنية التحتية  للصناعة  متوقفة عن الإنتاج، وهذا ليس بسر، ولا ندري على وجه التحديد كم منها مدمر كلياً، كما أن مؤشر انخفاض شهادات المنشأ التي تصدرها الغرفة للصناعيين المصدرين لخارج القطر بنسبة تجاوزت 70% يدل على حجم السوق الخارجية التي فقدها القطاع الصناعي نتيجة الدمار الذي لحق بالصناعة.

 

دفاع

من الظلم بمكان اعتبار كل صناعي سافر خارج القطر ليس بمنتم، فبعضهم غادر ويغادر لخدمة الوطن وفق طريقته، بل إن الكثير منهم يسافرون ويعودون، ويسافرون لبعث الروح بما تبقى لهم من بنى تحتية، ولا ننسى، والكلام للغرفة، أن هناك نسبة كبيرة من التجار والصناعيين خسروا كل ما يملكونه من مصانع، ومعامل، وآلات، وبضائع، وأسواق، ولم يعودوا يستطيعون ممارسة المهنة، ومن الظلم أن نضع جميع الصناعيين الذين غادروا للخارج في كفة واحدة، فمن ثبت أنه استغل الأزمة أو تهرّب من سداد واجباته، رغم قدرته على الإيفاء بها، فهذا يجب محاسبته، واتخاذ الإجراءات القانونية بحقه، وبحق من ساعده في ذلك، أما من كانت عليه التزامات، وهو جاد في الوفاء بها، لكنه تعسّر نتيجة الأزمة، سواء بسبب تدمير، أو سرقة معمله الذي هو مصدر رزقه، ومن لا يمكنه سداد ما عليه، أو بسبب عدم تمكنه من الوصول للمعمل، وبالتالي نقل بعض ماكيناته إلى منطقة آمنة ليستطيع الإنتاج والبيع، فهؤلاء يجب النظر في شأنهم بطريقة ذكية كي يتمكن الصناعي من الوقوف على قدميه من جديد؟!.

 

وزارة تنتصر على نفسها

نعلم جيداً أن حبكة تحقيقنا لن تكتمل ألا برأي الجهة الوصائية، وزارة الصناعة، والذي جاء هذه المرة أكثر من صريح، أو أبلغ من اعتراف موصوف بالإهمال والتقصير، والواقع المرير على غير العادة، وهذا أول العلاج الذي بدأ بإعداد دراسات تشخيصية حول واقع القطاع العام الصناعي خلال السنوات الماضية، ولكل قطاع صناعي على حدة، فعلى سبيل المثال تم إنجاز دراسة تشخيصية لقطاع الصناعات النسيجية، تبيّن من خلالها أنه لكي يحقق قطاع الصناعات النسيجية الغاية المنشودة منه لابد من تكامل سلسلة القيمة والإنتاج، بدءاً من القطن المحبوب، وانتهاء بالألبسة، إذ إن القيمة المضافة تتصاعد في كل مرحلة إنتاجية لتبلغ ذروتها بمرحلة الألبسة الجاهزة، وليست متساوية في كل مرحلة، فالصناعة النسيجية لم تمر بمراحل تطوير متوازنة، الأمر الذي أدى إلى حدوث اختناقات في سلسلة الإنتاج، فالطاقات الإنتاجية المتاحة في معامل الغزل أكبر بكثير من الطاقات الإنتاجية المتاحة في معامل النسيج، ما دعا المؤسسة النسيجية إلى تصدير الغزول في مرحلة إنتاجية تعتبر فيها القيمة المضافة متدنية بعد تأمين حاجة القطاع الخاص الذي استوعب جزءاً مهماً من طاقة معامل الغزل، كما لم يتم تطوير المصابغ بالشكل الذي يؤدي إلى إنتاج قماش يرضي أذواق المستهلكين، الأمر الذي دعا المؤسسة النسيجية إلى بيع الأقمشة بشكلها الخام، أو اللجوء إلى تصنيعها على شكل أكياس لتعبئة الطحين، ما سبّب خسائر للمؤسسة بسبب البيع بأقل من التكلفة، وأضاع فرصة تحقيق قيمة مضافة أعلى في مرحلة النسيج المصبوغ الجاهز للتصنيع كألبسة، وغيرها، (لم تتم إعارة تكلفة الفرصة البديلة الاهتمام اللازم)؟!.

 

اعتراف

وشهد القطاع الصناعي في سورية، بحسب “الصناعة” خلال السنوات العشر الماضية التي سبقت الأزمة الحالية، تباطؤاً يعزا إلى الترهل الإداري، فأضحت التكنولوجيا المستخدمة لا تواكب التطورات العلمية الحاصلة في أنواع الصناعة المختلفة، وهذه انعكست على تكلفة ونوعية المنتج، وبالتالي انخفض مستوى المنافسة، وجاءت الأزمة بتداعياتها السلبية لتزيد من الأعباء الملقاة على وزارة الصناعة التي أضحى همها المحافظة على الشركات القائمة، وتأمين مستلزمات استمرارها في العمل والإنتاج، وتأهيل الشركات المتضررة، وإعداد الدراسات الاقتصادية والفنية للمشاريع الجديدة، ووضع استراتيجية لمرحلة ما بعد الأزمة.

تراجع

ويفنّد الرد دون مواربة تدني مساهمة الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي بعدما وصلت إلى 13% لمرحلة ما قبل الأزمة إلى أقل من 8% في مرحلة الأزمة، وانخفض عدد المعامل بنسبة 40% عما كان عليه قبل الأزمة، إضافة إلى المعامل الهامة التي توقفت بسبب عدم إمكانية تأمين المادة الأولية، والطرق الآمنة، والطاقة بأنواعها.

 

كلام حق يراد به حق

ونتيجة الأزمة أضحت الحاجة ماسة لمراجعة السياسات الصناعية المعتمدة بهدف تطويرها لتحاكي الواقع الجديد الذي فرضته الظروف الأمنية التي تمر بها البلاد، بحيث تتكيف تلك السياسات مع المتغيرات والمستجدات ذات التأثير المباشر بالعملية الإنتاجية والتسويقية والمالية والعمالية للحد منها والتخفيف ما أمكن من تأثيرها.

وقامت الوزارة باتخاذ العديد من الإجراءات لإعادة تأهيل وتشغيل الشركات المتضررة جزئياً، من خلال الموارد الذاتية المتاحة والدعم الحكومي من خلال الخطة الإسعافية، وإعطاء الأولوية للصناعات الواردة في البيان الوزاري (النسيجية، الأدوية، الهندسية، الغذائية، الكيميائية ) حيث بلغ عدد هذه الشركات / 26 / شركة، وتأمين مستلزمات استمرار عمل الشركات العاملة في وزارة الصناعة والتي لم تلحق بها أضرار مباشرة نتيجة الأزمة وكانت أضرارها غير مباشرة وعددها / 27 / شركة، فيما فضلت التريث في معالجة وضع الشركات المتوقفة كلياً نتيجة التدمير .. وعددها / 43 / شركة، كونها تحتاج إلى استثمارات كبيرة، إضافة إلى إعادة النظر في بعض هذه الشركات في ضوء الحاجة إليها.

 

تشاركية

وتم اعتماد التشاركية مع القطاع الخاص منهاج عمل لإعادة تأهيل الشركات التي تحتاج إلى مبالغ مالية كبيرة وخبرات فنية متميزة، لاسيما بعد صدور قانون التشاركية رقم / 5 / لعام 2016، كما وتمت إعادة توزيع العمالة الفائضة والناجمة عن التدمير الكلي لعدد من الشركات الصناعية التابعة والتي لا يتوقع تشغيلها خلال السنوات الخمس القادمة، حيث تزيد رواتب هذه الشركات من أعباء الوزارة وترهق ميزانيتها، وقد تم نقلها إلى وزارات أخرى للاستفادة منها في أعمال تناسب كفاءتهم، مع الحفاظ التام على حقوق هذه العمالة، كما حرصت وزارة الصناعة على أن تحدد ملامح السياسة الصناعية بما ينسجم مع طبيعة الاقتصاد السوري في رؤية واقعية وعلمية وعملية قادرة على إنتاج قطاع صناعي يلبي طموحات واحتياجات الاقتصاد السوري، ويكون رافداً هاماً لسلسلة خلق القيمة المضافة في هذا الاقتصاد.

 

خريطة

حددت وزارة الصناعة العناوين الرئيسة لسياستها في المرحلة المقبلة بالصناعة الزراعية وإقامة الصناعات التي تعتمد على المواد الأولية المتوفرة محلياً والصناعة الخاصة بإحلال المستوردات،والعناقيد الصناعية، والصناعة وليدة الأزمة الخاصة بإعادة الإعمار، وستركز خطة وزارة الصناعة في مرحلة ما بعد الأزمة على: إتمام سلسلة الإنتاج حتى المرحلة النهائية وتطوير أقسام الإنتاج ( قسم النسيج وقسم الصباغة وقسم إنتاج الألبسة الجاهزة – سلاسل الإنتاج في صناعة الألبان) التحديث التكنولوجي للمعامل والشركات التي تعتمد على مواد أولية متوفرة محلياً كونه ذا أثر مباشر في كلفة ونوعية المنتج ومستوى العمالة وعددها، وسيتم تنفيذ ذلك من خلال: إدخال تكنولوجيا حديثة ومتطورة للشركات المعاد تأهيلها،  التوسع في الصناعات التي تتوفر موادها الأولية محلياً، التركيز على الصناعات الزراعية، متابعة سلاسل الإنتاج حتى المراحل النهائية تحقيقاً لفكرة العناقيد الصناعية، منع تصدير المواد بشكلها الخام، إعادة النظر ببعض الصناعات التي تعتمد على أذواق المستهلكين، والتي لم يحقق فيها القطاع العام نجاحات تذكر وتركها للقطاع الخاص.

 

ضعف مركب

رغم عراقتها التاريخية، ورغم تطورها النسبي خلال السنوات العشر التي سبقت الأزمة، مازالت الصناعة التحويلية السورية تعاني من ضعف في الإدارة والعمل المؤسساتي، ومن انخفاض في الإنتاجية ومستوى الجودة، وبالتالي من ضعف في القدرة على المنافسة في الأسواق الداخلية والخارجية، وهي لم تستطع بقطاعيها العام والخاص الاستفادة من ظروف الحماية التي رافقت تطورها لعدة عقود، ويعود ذلك بشكل رئيسي إلى أنها كانت ومازالت تواجه العديد من التحديات، على رأسها ضعف بيئة الأعمال والإطار التشريعي المناسب وغياب الاستراتيجية الحكومية التنموية الواضحة، وارتفاع أسعار حوامل الطاقة، عدا عن الهزات التي واجهتها خلال الفترات السابقة، ليأتي الإرهاب على كل شيء، فدمر وأحرق وسرق وقرصن  كل ما هو منتج وعريق وتراثي بشكل ممنهج ومدروس إلى دول الجوار، وأخذ معه حتى الأيدي الماهرة… فهل نحافظ على ما تبقى من خميرة، أم لا يصلح العطار ما أفسده الدهر؟!.

عارف العلي

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]