سباق مسافات طويلة بين الحكومة والسوق..جدية في المعالجة ووعيد بدحض أدبيات “البقاء للأقوى”..

 

دمشق – الخبير السوري:

ثمة مؤشرات تدل على توجه حكومي واضح باتجاه ضبط الأسواق واستقرار الأسعار خلال شهر رمضان المبارك، ويفترض بهذا التوجه (القديم – الجديد) أن يكون أكثر قوة هذه المرة كونه جاء على خلفية إجراءات حكومية أسفرت عن ارتفاع القوة الشرائية لليرة السورية، إثر ارتفاع سعر صرفها أمام الدولار. وقد  استحوذ هذا التوجه الذي تقوده وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك على المشهدين الإعلامي والاقتصادي خلال الأيام القليلة الماضية، من خلال تواجد الوزارة في الأسواق ومتابعتها لتطورات سعر الصرف وانعكاسها على الأسعار  باتجاه الانخفاض.

اضطرار

ربما يستفز هذا التوجه دعاة الليبرالية ويحرضهم على الوقوف ضده على اعتبار أن الحكومة تخالف بتوجهها –ولو نسبياً- اقتصاد السوق الاجتماعي الذي اتخذته سبيلاً، وتتمرد على حيثيات (دعه يعمل دعه يمر – دع السوق يتنافس – دع البقاء للأكفأ) وغيرها من المبادئ الاقتصادية الداعية لتحرير الأسعار والمساهمة بإطلاق يد القطاع الخاص وبسط سيطرته على الأسواق. وهنا نبين أن أعتى مواطن الرأسمالية تضطر وقت الأزمات للتدخل في أسواقها وإعادة النظر بنظام تسعيرها بهدف الحفاظ على أمنها الاقتصادي، بعد أن كان هذا الأمر من المحرمات، وبالتالي فإن واقع الحال لدينا ربما يفرض على الحكومة بلحظة من اللحظات النظر بحال أسواقنا وإن كان هذا على حساب نهج اتخذناه سبيلاً استراتيجياً لتطوير وتنمية اقتصادنا الوطني، ولعلنا لا نجانب الحقيقة بقولنا: إن العودة لنظام التسعير الإداري يعتبر خطوة نحو الإصلاح والتحديث الاقتصادي –على الأقل في هذه المرحلة الحرجة- ولا ينبغي النظر إلى هذه الخطوة على أنها حلقة منفصلة من حلقات التنمية الاقتصادية، بمعنى ضرورة وضع أسس جديدة للاستيراد والتصدير، ودراسة التكاليف، ومتابعة كل الإجراءات المتعلقة بوصول السلعة للمستهلك بسعرها الحقيقي، بحيث لا يبقى موضوع التسعير على ما هو عليه حفاظاً على أمننا الاقتصادي.

نقطة لصالح الحكومة

يسجل للحكومة حقيقةً وفاؤها بعضاً من وعودها خاصة تجاه توافر المواد الأساسية بعد أن عصفت بهما تداعيات الأزمة الخانقة من جهة الندرة واحتكارها من قبل تجار الأزمات، وقامت الحكومة بجهود استثنائية تتوازى بشكل أو بآخر مع حيثيات ما نمر به من مرحلة استثنائية، حيث لجأت إلى استيراد النفط، وأبرمت لأول مرة في تاريخ الاقتصاد السوري عقوداً لاستيراد الدقيق لتأمين استقرار رغيف الخبز وبالسعر المدعوم، نظراً لصعوبة استجرار القمح من المخازن إلى المطاحن لتزويد الأفران بهذه المادة، لاعتبارات تتعلق بالأوضاع الأمنية الراهنة لاسيما عام 2012، إضافة إلى تأمين جملة من المواد الأساسية ولاسيما السكر بسعر يقارب إلى حد كبير سعر التكلفة، عبر مؤسسات التدخل الإيجابي.

لكن هذا الجهد الحكومي لم يخل من مواطن خلل في كثير من الأحيان لاسيما من جهة عدم إيصالها إلى المستهلك والذي هو الهدف الأساسي من كل هذه الجهود، وذلك لأسباب تتعلق بارتكابات ذات صلة بآليات وسبل انسياب هذه المواد وبالسعر المدعوم ضمن قنواتها المؤدية للهدف المنشود من جهة، وبتذبذب سعر الصرف ووصوله إلى مستويات قياسية من جهة ثانية. ويبدو أن الحكومة قد حسمت أمرها باتجاه حلّ هذه المعضلة ووضع حد لجنوح السوق، عبر سلسلة من الإجراءات بالتزامن مع تحسن سعر الصرف منها تشكيل وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك فرق للقيام بجولات تفقدية على الأسواق للتأكد من انعكاسات انخفاض سعر الدولار على ارتفاع القوة الشرائية لليرة وعلى انخفاض الأسعار. وقد أكدت بعض مصادر الوزارة بأن ثمة مؤشرات إيجابية بدأت تظهر في هذا الاتجاه، ويراهن خلال الأيام القليلة القادمة على المزيد من الانخفاض بما يتوازى مع سعر الصرف.

تقليم الاحتكار

لعل العودة إلى نظام التسعير بما له وما عليه يفرض نفسه كحل أفضل بكثير من حالة الفلتان والتشوه السعري الرهيب الذي شهدته السوق السورية في الفترة السابقة، خاصة وأن السوق السورية أثبتت أنها لا تقبل وجود منافسة حقيقية شريفة كونها تحوي ما يسمى بـ (احتكار القلة) الذي وُجد نتيجة حالات الفساد والترهل المؤسساتي والإداري، ما جعل الأسعار تحلق بعيداً عن المعطيات المادية. ويبدو أن العودة لنظام التسعير سوف يفرض على الدولة القيام بمسؤولياتها، وهذا لا يعني محاربة القطاع الخاص، وإنما تقليم رؤوس الاحتكار ورموزه، الذين امتصوا القدرة الشرائية للمواطن البسيط بغير وجه حق، ونعتقد أن هذه العودة هي بمثابة العودة لمنطق الصواب، ومنطق الشراكة الحقيقية ما بين العام والخاص، والأهم من ذلك هو الالتفات إلى الطبقات المتوسطة والفقيرة وتحقيق العدالة الاجتماعية.

أخيرا..

وفي ظل ما يشاع بأن الظرف الحالي يفرض على الحكومة إطلاق يد القطاع الخاص في استيراد وتأمين المواد الأساسية وبالتالي فإن له حق تحديد الأسعار خاصة، وأن عمليات الشحن إلى سورية باتت محفوفة بالمخاطر من وجهة نظر شركات النقل، ما يزيد من أعبائه وتكاليفه المادية، وبالتالي له حرية تحديد هوامش الربح التي يرغب كي يستمر بتوريد وتغذية السوق بما يلزم من مواد وسلع أساسية،..في ظل ذلك يرى البعض وبالتزامن مع التوجه الحكومي الآنف الذكر والذي لا يخلو من الجدية ضرورة أن يعزز هذا التوجه بحسم اقتصادي لتبديد الخوف من هذه الألعوبة التي طالما حاول بعض المتنفذين الإقناع بعدم استطاعتهم الضغط على القطاع الخاص خشية امتناعه عن توريد وتغذية السوق بالسلع والخدمات، كونه الممسك بزمام تزويد السوق وبالتالي يمتلك حق التسعير. كما أن الخشية من القطاع الخاص جاءت نتيجة تربية تراكمية لمتنفذي السوق الذين استطاعوا الوصول إلى بعض أجهزة السلطة للحصول على قوة احتكارية مدعومة من جهات حكومية، وبالتالي أصبح هناك خشية من التصدي لهم ومحاسبتهم في السوق، علماً أن تجارنا لا يعملون في كوكب آخر، بمعنى أنه يمكن للدولة متابعة إجراءات وصول السلع من البلد المُنتِج عبر المورد والتدخل لتحديد السعر الحقيقي العادل.

حسن النابلسي

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]