عودة العقول إلى أرض الوطن.. هدف يستحق العمل

للكوادر البشرية المتميزة أو ما يسمى الكفاءات دور محوري وتأسيسي في علو وقوة وتميز البناء التنموي و استمراريته وفق وتيرة الارتقاء, و لطالما عانينا من نزيف كبير لهذه الكفاءات بنسب متوسطة, و لكنه ازداد بعد الحرب الظالمة المركبة المعقدة, فالهجرة كانت قبل الحرب كبيرة ولكنها كانت تعوّض بحجم الخريجين ومهارتهم, ومع أنها خسارة ولكنها لم تترك فراغاً كبيراً مؤثراً وبعد الحرب تضاعفت أضعافاً مضاعفة.
وبالنسبة لمسببات هذه الهجرة فهي تختلف بين ما قبل الحرب وما بعدها، فحسب الإحصاءات لعام ٢٠٠٠ يوجد نحو ٣٠٠٠ طبيب سوري من أصل ١٥٠٠٠ في الولايات المتحدة ونحو ١٨٠٠٠ طبيب في ألمانيا.
و في المحصلة قدرت الخسائر بهجرة ثلث أطباء سورية وخمس عدد الصيادلة, علماً أن تكلفة خريج جامعي نحو ٢٠ ألف دولار.
وأما بعد الحرب فإن ٤٠ في المئة ممن هاجروا بين عامي ٢٠١٣ و٢٠١٦ يحملون شهادة ثانوية وما فوق وتسرّب ٣٤ في المئة من كوادر جامعة دمشق.
و ٤٥ من جامعة حلب و٨٥٠٠ مهندس و ٢١٥٠٠ حامل شهادة جامعية.
وبمعزل عما تكلفت البلد لتنشئتهم وتعليمهم وتدريبهم و بمعزل عن الفراغ المهني و التعليمي فقد كانت تعد التحويلات المالية سابقاً مكسباً في ظل وجود بدائل, أما اليوم فأصبح هناك فراغ وقلة وتأثير سلبي لفقدانهم, بينما الكوادر السورية تغزو العالم وتبني تنميته وحضارته فهم سفراء في كل بلدان العالم.
وبالنسبة للتحويلات فقد كانت قبل الحرب تقدر بأكثر من مليارين ومئتي مليون دولار، ونسأل اليوم كم هي بعد الهجرة الضخمة ؟ ونقول: مهما كبر حجم التحويلات يبقى الإنسان أهم بالنسبة للتنمية والتطور والارتقاء.
وقبل الحرب كان الفساد والتعيين بلا معايير وليس حسب الكفاءة و النزاهة من (طوارد) الكفاءات، إضافة لقوة الجذب الغربي من مغريات وسبل رفاهية و تحضر و ضعف الانتماء لعدد لا بأس به ولكن خلال الحرب تزايد الفساد والفوضى نتيجة الحرب المعقدة و ضعف المنظومة الأخلاقية و الترهل الكبير وضعف المراقبة والمحاسبة والذي انعكس على التعيينات وظروف المناطق التي تهدمت واحتلت وتسهيلات الغرب و تدني مستوى الخدمات و مستوى المعيشة جعل هناك هجرة ضخمة وفراغاً كبيراً.
فقبل الحرب كانت الشهادة السورية أهم من أغلب الشهادات ومنها الغربية..لتميز السوري حتى وهو طفل عن غيره وهو ما جعل سرقة الطاقات والعقول السورية غاية وهدفاً للآخرين.
وفي المحصلة فإن أهم ثروات سورية أهدرت وتسربت وتغربت وهي أغلى من كل الموارد ومهما بلغت التحويلات تبقى طاقاتها وإمكاناتها وحاجة البلد لها أثمن من الأموال و الجواهر وبالتالي يجب العمل على إرجاعها وفق برنامج واضح وتسهيلات مختلفة تزيل العراقيل.
ومن الأسباب المجسدة لحجم فراغ هجرة الكفاءات سياسات الاستيعاب، فقبل الحرب كنا في سياسة الاستيعاب لكافة خريجي الثانوية وفق أعداد تفيض عن حاجاتنا التنموية والتي خلقت فوائض وجد الكثير منها في البلدان الأخرى مصدر عمل ومعيشة و تأسيس للعودة القادرة على الاستثمار القوي لكفاءتهم وخبراتهم وبما يساهم مساهمة فعالة في النمو والتنمية وبعد ما وصلنا إليه من تطور في أغلب المجالات انتظرنا أن نركز على تكريس جودة الخدمات بما يضاهي الغرب المتحضر، وخاصة التعليم والصحة والسياحة ولكن للأسف لم تنج من عيون القطاع الخاص لإقحامه في الاستثمار ولو لم يستطع التنافس ومن أجل السعي للانطلاق نحو التميز بالجودة طالبنا بالتفرغ وخاصة بالتعليم والصحة ولكن عبثاً لتظل الازدواجية واستمرار إضعاف إمكانات وخدمات العام.
كثر ممن أرسلتهم الحكومة قبل الحرب كتعليم عالٍ لم يعودوا ويستكثروا دفع الغرامات والتكاليف وجزء منهم تعالى ولا انتماء لديهم لبلدهم.
ولكن يجب دوماً ألا ننظر للخلف ولا نستسلم لليأس, فيجب العمل على تمكين وتحصين الكفاءات عبر سياسات واضحة من التعيين والأجور والمكافآت.
وهنا نبارك موضوع التعيين والذي أخذ به مؤخراً عن طريق وزارة التنمية الإدارية ومركزية التعيين حالياً، حيث كان التعيين يتم عبر المحسوبية و الرشوة و إبعاد الكفاءات وخاصة بالجامعات ومهما يكن فالمركزية تخفف من الفساد و توصل كفاءات قادرة على التطوير والتحديث والتغيير الصحيح والإحاطة بتفشي الفساد والذي أصبح علنياً ووقحاً.
وكذلك من أجل الحفاظ على ما بقي و جذب من هاجروا لا بد من خطاب وطني إعلامي مخفف للاحتقان الناجم عن سوء المعيشة والضغوطات التي يعانيها الشعب وعودة الثقة والوقوف مع البلد، بينما يعاني من صعوبات ناجمة عن إرهاب اقتصادي مركب انعكس على حجم الموارد والإمكانات، والعمل على تسهيل عودة الكفاءات المهاجرة لأسباب لا إرادية.
الكفاءات ثروة لا تفرط بها الدول وكثير من الدول بلا ثروات طبيعية تجاوزت الصعاب كاليابان بعد الحرب العالمية الأولى وألمانيا وماليزيا والتي كانت من قبل تتمنى أن تصل لمصاف سورية التنموية وسنغافورة أيضاً.

ويجب تقوية فعالية المؤسسات كلها ضد سطوة المال و فرض قوة القانون على الجميع بالقوة، والاعتماد على الكفاءات السورية والتي ثبتت وطنيتها, والابتعاد عن مبدأ (مزمار الحي لا يطرب), و الإدارة الرشيدة لكل الموارد لتحسين مستوى المعيشة, فمن المعيب التفاضل بين أجورنا ووضعنا وبين الخارج في ظل بلد نازف و محارب.
كما يجب إدخال صفة الوطنية بين من يصمد برغم سوء الظروف ومن يهرب من الوقوف مع الوطن في ظل سرقة علنية للكوادر والطاقات السورية.
للأسف كانت وستبقى أهم أهداف العالم الغربي المتعالي المتآمر سرقة الكفاءات والعقول وحرمان البلدان الأخرى منها و قتل الطاقات الشابة لعرقلة النمو والتنمية والتطور واستمرار التبعية بكل أنواعها وفي العقد الأخير زادت هذه الدول من سعيرها ونوّعت من أدواتها بما فيها القتل إن فشلت المغريات ، وهذا ما يدل على أهمية هذه الكوادر وحجم الحاجة لها و الفائدة من حمايتها وتثبيتها في بلدنا وإعادة ما تسرّب منها.

تشرين..

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]