الخطر القادم نحونا من الفضاء..!!

 

إذا كان من الموضوعيّة بمكان الاعتراف بسطوة الفضاء الافتراضي الذي تُوفّره شبكات التّواصل الاجتماعي، والذي بات واقعاً ملموساً في حياتنا، ويلعب دوراً مؤثّراً ومباشراً في إعادة بناء الوعي والسّلوك والعلاقات البينيّة بين الأفراد من جهة، وبين الجماعات من جهة أخرى، وبأنّه غداً قوة للفعل والمبادرة في مختلف المجالات وله ما له من تأثير مباشر، سلباً أم إيجاباً، في بناء المخيّلة الجمعيّة؛ فمن الواقعية عدم إنكار حجم الاستلاب الفكري الذي تخلّفه هذه الشبكات على السّواد الأعظم من روّادها؛ من وقوع في قبضة الأسر الكلّي، وشبه المطلق، لفكرة، أو لشائعة ما، بحكم سطوة حواملها ومسوّقيها وحضورهم الافتراضي النافذ على الشبكة العنكبوتية.

وبعيداً عن حجم الاستلاب وتناغمه مع الشّرط الوظيفي والموضوعي للذّوات المستلبة، فإنّ الاستلاب العقلي، يقود بالضّرورة إلى الاستلاب الفكري والثقافي، وبالتالي يفرض نهجه على تلك السلوكيات، والطبائع المرتبطة بتلكم الذوات المستلبة على المستويات كافة: الاجتماعية والنفسية والفكرية والثقافية والحياتيّة وتنتفي هنا بالضّرورة المطلقة؛ مقولة ديكارت الشهيرة: “أنا أفكر، إذاً أنا موجود”؛ إذ من شروط وجود الكائن العاقل، الذي يمتلك الذّات الحرّة، المستقلة، التفكير، وإنّه من شروط الاستلاب الأساسية إلغاء التفكير الموضوعي، البنّاء، والخلاّق.

فما إن تلتقي مجموعة من الأصدقاء، أو أفراد العائلة؛ في لقاء يفترض الحميميّة حتى يبدو الكُلّ مُنشغلاً بهاتفه النّقال، وكأنّ العلاقة الجارية على شبكة التّواصل أهمّ من الحضور الفعلي والتفاعل المباشر، ما يقطع الشكّ باليقين بأنّ ثورة الاتصال والتّواصل والفضاء الذي تتيحه شبكاتها ليس مجرّد مسألة تقنيّة، بقدر ما هو ثورة في الوعي، وعلى الوعي والسّلوك والعلاقات، لذا فهو ظاهرة جديّة وعميقة تحتاج إلى نقاش علمي جدّي لإدراك أبعادها وتأثيراتها، ما يستدعي من بعض القيّمين على إعلامنا إخراج رؤوسهم من الرّمال، والتخلّص من سلوك الزّرافة في التعاطي مع هذه الحقيقة وإيلاءها ما تستحق من اهتمام من المختصّين في علم الاجتماع وعلم النّفس لدراسة دورها ووظيفتها وآثارها وإخضاعها للبحث السوسيولوجي العلمي ارتباطاً بخصوصيّة مجتمعنا وبما ينسجم مع قيمه وأخلاقياته.

وغيرُ خافٍ ما تعكسه شبكات التّواصل من ظواهر ذات تأثيرات جماعيّة، واسعة الشّمولية، تتمثل فيما توفّره من إمكانية التّحشيد والتّحريك الاجتماعي الغريزي حول موقف أو حادث ما، لتتحول هذه الشّبكات -في بعض الأحيان- إلى ما يشبه الميدان الذي تتحرّك فيه القطعان غريزيّاً لا تدرك أنّ ثمّة قوى خفيّة تقوم بتحريكها وتوجيهها لأهداف مشبوهة، إذ يكفي مثلاً إطلاق شائعة أو تبنّي موقف ما تجاه حادثة عادية جداً دون توضيح سياقاتها وملابساتها حتى تنفلت الجموع من عقالها، وتبدأ بالتّحشيد والتّحريض الذي غالباً ما يستخدم الذّاكرة والوعي الجمعي في توجيه حركة “القطيع”، كاستخدام: الدّين، والطائفة، والأصل الإثني، وغير ذلك من مُحفّزات فطريّة أو غريزية.

وتكمن خطورة هذه الظاهرة حين يتمّ الاشتغال عليها وتوظيفها من قوى خارجية من أجل تغذية الخلافات والتناقضات الثانوية وإطلاق ديناميّات الصّراع والتّفكيك الذّاتي، وصولاً إلى ضرب مفهوم الوحدة والنّسيج الاجتماعي والوطني. وكذا من خلال وضع الخصوصيّات والجزئيات الاجتماعية والدينية والثقافية والفئوية والسياسية في مواجهة تناحريّة مع ركائز الانتماء الوطني والهوية الجامعة.

والحال أنّ هذا الواقع “الافتراضي” وفوضاه العارمة؛ يُرتّبان على وزارة الإعلام مواكبةً موضوعيةً عاقلةً وواعية، ومن ثمّ اجتراح ضوابط قانونيّة وتشريعيّة تكفل حسن استخدام هذه الشّبكات واستثمارها، بما يُحقّق المصلحة العامة أولاً، ويُحصّن الجيل؛ دونما تفريط بحريّة الأفراد وخصوصيّاتهم وفضاءاتهم الشّخصية ثانياً.

أيمن علي

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]