التشاركية ودورها في الانطلاقة الاقتصادية الفعالة و التعددية البناءة..بقلم:د.سنان علي ديب

 

التشاركية مصطلح أثار جدالاً كبيراً قبل الأزمة ومع انه سابق لها بعقود ولكن الثقة المفقودة بين التنظير و بين التطبيق جعلها بين رحى جدالاً وخلافاً كبيراً فالتشاركية  بين القطاع العام والخاص تهدف لتحقيق أهداف اقتصادية واجتماعية بحيث تستطيع الحكومة الاستمرار بالتنمية الاقتصادية و البشرية و الاجتماعية بما يمثل الاستثمار الأمثل للموارد وبما لا يحيدها عن إدارة التنمية وهي  مفهوم قديم أخذ أشكالاً متعددة عبر الزمن وفي مختلف البلدان، دون أن يكون لها تعريف واحد متعارف عليه بين الدول. لكن من المتفق عليه أن مفهوم التشاركية يقوم على مشاركة القطاعين العام و الخاص  في تنفيذ وتشغيل مشروعات تنموية تحتاج إلى خبرة فنية واسعة لتشغيلها وإدارتها تفوق قدرة القطاع العام.وقد تأخذ كذلك تشاركية بين منظمات دولية أو محلية و القطاع العام وهي لا تعني الانتقال الكامل للملكية وإنما إعادتها للحكومة بعد انتهاء مدة العقد وهي بذلك  لا تشمل مفهوم   مقاولات تنفيذ عقود الانشاء مع القطاع العام أو عقود  توريد السلع والخدمات من القطاع الخاص إلى القطاع العام

جدل

كان موضوع التشاركية مثار جدل كبير قبل الأزمة بين فريقين الأول يريد تطبيق مقررات مؤتمر واشنطن المتجسدة في وصفات البنك الدولي و صندوقه ولو على طريقة الصدمة مهما كانت نتائجها وآخر ينظر إلى أهمية تفعيل دور القطاع الخاص و مشاركته بالتنمية وإنما بفاعلية تزيد الطاقات الانتاجية و تحقق مزيداً من النمو و التنمية وليست تشاركية محاباة على حساب القطاع العام و بناه المستطاع إصلاحه لو وجدت النوايا و الإرادة وكان موضوع محطة الحاويات في طرطوس و اللاذقية و معمل اسمنت طرطوس أساس هذا الجدال و الخلاف , فما نفذ بهذه القطاعات لم تكن تشاركية و إنما محاباة البعض بأسلوب توفير ربح جاهز و عدم التقيد بالعقود وعدم زيادة الطاقات الانتاجية وإنما منح قطاعات منتجة ذات مدخول وجاهزة للإستثمار المتزايد في حال القيام بإصلاحات قليلة و لم يقف طموح المستفيدين عند هذا الحد وإنما تجاوزه للتفكير بقطاعات أخرى و منها ما قد ينعكس على حياة المواطن ويزيد من عبء تكاليف الحياة كالكهرباء و المياه و كذلك محاولة تعطيل إصلاح القطاع العام لتحقيق الاحتكار و تكديس الأموال , و بعد الأزمة المآساوية و الدمار الذي نجم عنها بتكاليف تقدر بحوالي 300 مليار دولار و دمار حوالي ثلث المساكن و آلاف  المدارس و مئات المشافي و المستوصفات و نصف معامل القطاع العام و نصف محطات الصرف الصحي و معظم السكك الحديدية و مئات الجسور و بعد الحصار الاقتصادي و العقوبات الظالمة المفروضة على سورية أصبح هناك ضرورة لتعاون الجميع لإعادة البناء و المشاركة بترميم وإصلاح ما حملته لنا هذه الحرب الظالمة من الناحية الاقتصادية وما نجم عنها من كوارث اجتماعية فاضت على ما كان موجود من عدم توازن التنمية , فنتائج الحرب تفرض تعاون الجميع القطاع العام و الخاص و مدخرات المنظمات و الهيئات و رؤوس الأموال الوطنية داخلاً وخارجاً , ففي فترات عدم الأمن و الاستقرار أكيد رأس المال الجبان لن يقترب و لن يستثمر فكلنا يعرف أن رأس المال جبان يبحث عن الاستقرار و يبقى الموضوع بيد من يحمل هماً وطنياً ويرى أن العمل واجب و غاية لعودة الاستقرار للعيش الأمن و السليم .

وصفة وعلاج

و التشاركية سابقة لمرحلة ما قبل الأزمة بفترات و بقطاعات مختلفة ومنها ما هو محلي ومنها ما هو مع شركات أجنبية ولو أن أبعاد الشراكة مع غير السوريين قد يظهر له أبعاد غير مالية و قد تنعكس على امن الوطن , فمنذ الخمسينات كان هناك شراكة لإدارة المرفأ و بعدها بالسبعينات كانت تشاركية مع شركات نفطية للتنقيب و الاستثمار و كذلك شراكة بالقطاع الزراعي و السياحي عن طريق الشراكة بالادارة أو عقود محاصصة لفترات زمنية , و بالتالي هي ظاهرة قديمة ونجحت بقطاعات ولولا الخلاف الجذري ما قبل الأزمة لما حصل شكوك وتخوف منها , ولكن ظروف الأزمة لا يعفي من شروط واجب توفرها للسير بالتشاركية بأنواعها المختلفة , من حيث الادارة عندما يكون هناك نقص تكنوقراطي بقطاعات معينة او من حيث مشاركة القطاع العام بأرض لإقامة منشآت لفترة محدودة ومن ثم تعود ملكيتها للدولة ففي التشاركية لا يجوز ان تنتفي صفة ملكية الحكومة عن الأصول المشاركة بها وإلا تحول لخصخصة وكذلك في منح ترخيص لشركات لتنفيذ بنى تحتية لمدد طويلة ومن ثم يعود الريع للحكومة , وفي هذه الشراكات يجب أن لا يغبن أي من طرفي المشاركة الحكومة بمن تمثله من الشعب او الشريك الآخر بحيث لا تنعكس هذه الشراكة على الخدمات المقدمة للمواطن كأن يتحكم الآخر بثمن الخدمة بما يفوق استطاعة المواطن و كذلك بما لا يحقق خسارة أكيدة للشريك و بالتالي فإن الخوض بهذا المضمار بحاجة لكفاءات مؤهلة ومدربة قادرة على وضع العقود المناسبة ذات خبرة و دراية بدراسة أي مشروع من حيث جدواه الاقتصادية و الفنية وكذلك لوجود كفاءات وخبرات قادرة على متابعة سير المشروع و المعرفة الكاملة بتفاصيل عمله ومردوده و قد عانينا سابقاً من تشاركية وخاصة بالقطاع السياحي بأسعار زهيدة و لفترات مديدة تصل لـ99 سنة وهو ما يعتبر تخسير لموارد الدولة و تربيح ومحاباة للبعض , وكذلك لا يمكن الخوض بعمق التجربة من دون وجود محاكم مختصة و سريعة بدراسة عقود التشاركية و سريعة بأخذ القرارات في حال اللجوء للتخاصم ..

مأسسة

وبالتالي فإن  إنشاء وحدة مركزية للشراكة بين العام والخاص تكون مهمتها تطوير الإطار القانوني للتشاركية وتطوير السياسة الوطنية لها.ضرورة ملحة للإنطلاقة الصحيحة في إعادة البناء و الانطلاقة الاقتصادية وهنا لابد من التوضيح أن الأخذ بموضوع التشاركية كغاية قد يحرفها عن مسارها وعن ما نأمله منها في تكامل التعاون الاقتصادي بين كافة شرائح المجتمع لتجاوز الانعكاسات الأزموية و الانطلاقة الجديدة فهي وسيلة و ليست غاية وهذا يجب أن يكون منظور الحكومة وقد صرح البعض في ملتقيات بأن التشاركية حل لتزاحم المصالح بين الحكومة و القطاع الخاص و القبول بالتشاركية من هذا المنظور غير مقبول سابقاً ولن يقبل لاحقاً فالحكومة المنبثقة من أي شعب و تعمل بشكل مؤسساتي لا يقبل أن تدخل بهكذا صراع لأن الاطار القانوني الوطني و سلطة القانون كفيلة بوضع حد لمن يريد مواجهة الدولة بغير حق ولكن التعاون ضروري لضرورات الوطن و للإستثمار الأمثل للموارد طبقاً لحاجات البلد المدروس و قد يرى تبريرات لأشكال من التشاركية غير المنطقية المحابية للبعض محمية بهكذا تبريرات لا تعبر إلا عن ضعف أو تشاركية بين صاكي العقود من نوع آخر على حساب الوطن ..

و بالتالي ليس الانسياق وراء التشاركية هو من اجل تقوية الخاص على الحكومة كقائدة للعملية التنموية و ليس رفض التشاركية ببعض القطاعات هو لأننا ضد القطاع الخاص , فالتشاركية هي عملية مزج دور القوى الوطنية في عملية البناء وهي تختلف عن الخصخصة التي حاولت بعض القوى السير بها لسحب سيطرة الحكومة و ذلك عبر الانسجام و التناغم مع قوى حاولت تفشيل القطاع العام و عرقلة إصلاحه في ظل توافر الامكانات و تلاحقت هذه العملية بعملية تدمير ممنهج لأغلب المصانع التي لم تموت رغم مختلف الحقن المسرطنة و بالتالي التشاركية لا تعني التوقف عن السير بإصلاح القطاع  العام و الذي يجب أن تتزايد الهمة نحوه لأنه في ظل الأزمة الرافد الأهم للمنتجات و لتشغيل اليد العاملة و للموارد للموازنة ,

بديل تنموي

فالتشاركية من حيث الواقع تشكل صيغة تمويلية وطنية بديلة للمديونية التي تحمل معها عبء خدمة الدين على الموازنة العامة للدولة.

، والتشاركية تعزز من استقلالنا الاقتصادي.وبذلك فإن مشاركة القطاع الخاص في الاقتصاد الوطني حقاً من خلال بناء وتطوير وتشغيل المرافق العامة لا يجب اعتباره خطاً أحمراً وهو لم يعتبر سابقاً فقلة من كان قبل الأزمة ينظرون هكذا نظرة ولكن أسلوب التنفيذ عبر الاحتكار أو قطع التنافسية وإقحام قطاعات بغاية الربح غير المحق الناجم عن اقتتطاع حصص من العام أو عرقلة إصلاحه وكذلك من خلال اللعب بالمواصفات وعدم التقييد بالشروط أعطى عدم ثقة عممت وكان ذلك خطأ يتحمل من قام به , ولكن الطروحات الحالية تعطي كل حقه من خلال أن من كان ينتقد السلوك لم ولن يكون ضد الخاص أو ضد الليبرالية التي تعني المنافسة و الحرية و العدالة الاجتماعية المحمية من الدولة وهو ما كان تحت عنوان اقتصاد السوق الاجتماعي الذي لم ينفذ منه شيء و إنما فرض اسلوب اقتصادي لم يهمه شيء من الاجتماعي وهدفه مواجهة العام و بالتالي من يقول أنه يجب أن يكون هوية للاقتصاد فلماذا إختزال الهوية الاقتصادية بنموذجين ولماذا لا ينظر لهامن خلال برامج تحقق المبتغى وتراعي الخصوصية و بالتالي إن تحقيق التشاركية بما يحقق مصالح البلد ووفق ضوابط قد يؤدي لصورة  صحيحة عن الهوية التي البعض لا يرديها إلا بماتحقق مصالحه او مصالح من يوجهه أو مصالح من يدفع له.

قانون

وقد وضع القانون رقم /5/ لعام 2016 لتأطير وقوننة التشاركية القادمة و لكن وضع القوانيين ليس كافياً فيجب أن يتابع بتأمين الكوادر القادرة على السير بهذه القوانيين بما يحمي حقوق الحكومة و ييسير عمل الشريك فمؤسسات الدولة بحاجة لكوادر قادرة على التخطيط الصحيح و ووضع الشروط العادلة للعقود من خلال دراسة جدوى اقتصادية دقيقة و شروط فنية وحقوقية عادلة تراعي كلا الطرفين و كوادر دارسة للحاجة الحقيقية و كيفية وضع الشروط الميسرة و الفاتحة المجال لأكبر عدد من المتقدمين فكلما ازداد عدد الراغبين بالشراكة كانت الشروط أقوم وأعدل للحكومة وكذلك بحاجة لكوادر قادرة على التفاوض وكوادر نزيهة منضبطة لمتابعة سير التنفيذ ضمن الشروط المتفق عليها ومحاولة علاج أي اعوجاج بوقته دون تأخير ودون محاباة بالتنفيذ مقابل فوائد غير محقة , وكذلك فإن الشركات المحلية الخاصة لم تصل للمستوى القادر على الخوض بهذه التجربة ولم تعط الثقة مع الاخر ومن يمثله من خلال تجاربه السابقة ومن دون توفر هذه الثقة فلا دور فعال متكامل للتشاركية, إضافة لذلك لا بد من تطوير القطاع المصرفي و المالي بما يناسب هكذا تجارب  , فالقطاع المصرفي السوري بشقيه العام والخاص في الوقت الحاضرلا يمتلك  القدرة المالية والعمق والتنوع لتمويل مثل هذه المشروعات. فمؤسساته مازالت تقتصر على المصارف التجارية التي تجذب الودائع وتمول المشروعات القصيرة الأجل، وكذلك نفتقر إلى المؤسسات المصرفية الاستثمارية والمؤسسات المالية غير المصرفية التي تقدم التمويل الطويل الأجل. لذلك ينبغي الإسراع بإقامة مؤسسات التمويل الطويل الأجل وكذلك  مصارف الاستثمار…

شمولية

ولا تقتصر التشاركية على المشاريع ذات الكثافة برأس المال  ,فالتشاركية ليست فقط للمشاريع الكبيرة ذات الكثافة الرأسمالية وقد تكون مشاركة لاستثمار الابداع و رأس المال البشري كما تقوم بعض الجهات العامة من محاولة ربط مخرجات الابداع بالواقع عبر دعم ابداعات الشباب وتطبيقه ليأخذ حيز الوجود الفعال و كذلك التشاركية بين مؤسسات القطاع العام وبعض جمعيات المجتمع الأهلي في رعاية مشاريع صغيرة أساس الانطلاقة الاقتصادية الفعالة المتكاملة , و بالتالي يجب أن يكون هناك خارطة تنموية تحتوي الاحتياجات الأساسية وكيفية تأمينها عبر أولويات ومنها ينبثق خارطة استثمارية يحيد منها ما يمكن أن تتصدى له مؤسسات القطاع العام ومن ثم ما يحتاج لتشاركية و بعدها ما يمنح للقطاع العام , وفيما نراه من مشاريع إعادة تأهيل البنى التحتية وإعادة إعمار المدن و البناء وإن كان أغلبه تحت بند التطوير  العقاري أو إذا عدل القانون فإن حقوق المواطنيين المثبتة عقارياً أو غير المثبتة للسكن العشوائي يجب أن تكون أساسية وأي تجاوز لها يجب أن يحاسب المرتكبون

ولا يعني كلامنا أن التشاركية هي الحل الأوحد الأمثل فهناك إمكانات القطاع العام منفردة وهي كبيرة و هناك مشاريع القطاع الخاص وخاصة في ظل ما كان موجود من بنى تحتية تتمثل بالمدن الصناعية و البنى التحتية و الموارد الأولية التي تحويها سورية و هناك إمكانيات لمشاريع تعاون مع بلدان صديقة و قريبة ضمن شروط واضحة بعيدة عن أي خطورات أمنية أو اجتماعية و بالتالي ما نطرحه دعوة للتعاون و الاستثمار الأمثل للموارد بشروط الحكومة الهادفة لتأمين احتياجات البلد و المواطنين وضمان أمنه ولا شروط كما يروج البعض بأن التشاركية كحل وسط لمزاحمة الخاص للعام .

وأخيراً تكامل الجهود الوطنية لما بالداخل و الخارج قد يخفف من المعاناة و يسرع بالانطلاقة التنموية وإعادة الاعمار وهذا يعود على إعادة الثقة بين الفئات القادرة على العطاء و على تقديم التسهيلات ومواجهة الفساد و زيادة الشراكة و فصل السلطات وتفعيل  دور المنظمات و الأحزاب و إصلاح القضاء وإعادة الروحية للمؤسسات المنضبطة و الضابطة للفوضى التي يحاول البعض تعويمها و تأزيم مستمر…

الدكتور سنان علي ديب/ جمعية العلوم الاقتصادية /

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]