الفشل أمام تحدّي الصناعة والانفراد بالنفحة التجارية أحالا مناطقنا الحرّة إلى غرفة العناية الفائقة

خاص – الخبير السوري:
آن الأوان لنعترف بأن وصفة (المناطق الحرة) – التي أفرد لها “عرّابو” سياساتنا الاقتصادية لعقود خلت، ما يربو على خمسة آلاف دونم- فشلت شرّ فشل في توطين ما يرفع العتب عنها “صناعياً”، والمتهم رقم واحد كان ولا يزال ندرة المزايا التفضيلية!. مقادير الوصفة المستوردة – بشهادة أهل الكار- ضاعت في معمعة التشريع، وخلطة الإجراءات والمحاولات التي لم تنتج إلا مناطق (تجارية الصبغة)، وكأنها قصة زواج غير شرعي ربطت الرساميل الخارجية بالقيم المضافة محلياً.
تراجع الاستثمار الصناعي في مناطقنا الحرة، لم يبدد أحلام المستثمرين فقط، بل حتّم علينا البحث عن إسقاطات فعلية لـ “بيوت الأمان المزعومة” على الأرض، قال البعض. لكن لا شيء يستأهل البحث في قطار اقتصاد يسير دون عربات إلى وجهة مجهولة، أضاف آخرون. في اقتصاد السوق الاجتماعي (الميمون)، بدل أن تتحول المناطق الحرة إلى قبلة لجذب الاستثمارات واستقطاب رؤوس الأموال، تحولت إلى “موضة” لفتت الأنظار بادئ ذي بدء، ومن ثم سرعان ما خبا بريقها القادم من خلف الحدود، دون أن تنال شرف “تكحيل” أعين نموذجنا الاقتصادي الأعمى.
إعادة النظر بأهداف بؤر الأنشطة الاستثمارية هذه – كما يحلو للبعض تسميتها-في ضوء عولمة الاقتصاد، وتحرير المبادلات التجارية، انطلاقاً من فرضية أن اتساع الأسواق يؤدي إلى نتائج اقتصادية مهمة، باتت واقعاً لا مهرب منه، علّ تغيراً نوعياً يصيب إنتاج مناطقنا بمكمن، فتتجه لإنتاج الخدمات بدلاً من السلع.
وفرة الأحلام
سنوات مضت قبل الأزمة الحالية التي كانت شماعة مناسبة لتعليق ضروب الفشل السابق، وأحلام تحقيق وفورات الحجم وزيادة الكفاءة الإنتاجية، وتنشيط حركة التجارة وجذب الاستثمار الأجنبي المصحوب بالتكنولوجيا الحديثة، لم تر النور، علماً أن وحي فلسفة المناطق الحرة، يتمثل في زيادة الانفتاح الاقتصادي استجابة للمتغيرات الإقليمية والدولية، وليس لاعتبارات اعتباطية كما حالنا. فالانفتاح الاقتصادي تحول إلى (غول) أتى على اليابس والأخضر، تحت ذرائع تأمين الخدمات وتوفير الاستثمارات، وتنمية الصناعات المحلية، لتصب عوائدها بالنهاية في خانة التنمية، لاستحالة إعادة توزيع الثروات من جديد، لأن العدالة على الأرض ليست إلا أكذوبة كبرى.
خلطاتنا التشريعية المتداخلة، ومحاولات المعنيين المأسسة لنمط استثماري جديد، يعتبر السلع المنتجة أو المخزنة فيه خارج المنطقة الجمركية وغير خاضعة للرسوم والضوابط الجمركية، (خرّت المي)، لا بل زادت طينة وصفاتنا الاقتصادية بلة. فصناعاتنا المحلية لم تنمُ على أيدي منظريها وإنما كادت تندثر، وصادراتنا ذات المآل، لم تعرف إلا التراجع، هي وفرص العمل المزعومة. اللافت أن الاستثمار الصناعي في مناطقنا تراجع بشكل حاد بدلاً من الصعود المتوقع، جراء الامتيازات والعطايا الممنوحة له على الورق، والرؤى الضبابية التي ابتُليت بها هذه المناطق، التي غدت مستودعات وأماكن تخزين للمنتجات والسلع “الخردة”، ومعارض سيارات غير آبهة بدورها في الإنتاج والتصدير.
قواعد الاستثمار في مناطقنا الحرة، تسير وفق مفاعيل مثلنا الشعبي” كلام الليل يمحوه النهار”، ففي الليل تُقرّ المنح والقوانين، وفي النهار تُفصّل أخرى أو تمحى، ويا دار ما دخلك شر.
مزايا بالجملة
الأصل في المناطق الحرة، أن تتحول إلى ورش صناعية أشبه بالعناقيد، إلا أن الرياح جرت بما لا تشتهي سفن التغيير المنشود، وبدلاً من المطب الواحد وُجدت عشرات المطبات أمام عجلة الاستثمار في مناطقنا التي لم يستهوِها البريق القادم من خلف الحدود، وإلا لما كانت منتجاتنا تندب حظها العاثر في كل محفل.
الرؤى الضبابية، وغموض السياسات الناظمة لعمل المناطق الحرة، فضلاً عن نقص التشريعات التشجيعية، لم تكن العثرة التي حالت دون تحول هذه المناطق إلى قنوات تصديرية، وآلية مهمة من آليات زيادة الناتج القومي، في رأي أحد الخبراء. النشاط الصناعي مقارنة مع النشاط التجاري- وفقاً للخبير- لم يعط أية مزايا نوعية تجعله ينافس في الأسواق الخارجية، ولا حتى الداخلية، فضلاً عن معاناته لسنوات من ازدواج ضريبي. أما الصناعات الموجودة، فلم تكن لتبقى إلا بحكم الاستمرارية، إذ لا تزال تعمل بالحد الأدنى لها.
نمط استثماري جديد
في واقع الأمر، المؤشرات أثبتت أن موضة المناطق الحرة، لم تواكب متطلبات العصر وتطوير عمل المناطق الحرة، بات أمراً واقعاً لا يحتاج إلى تبصير أو الضرب في المندل، كما عوّدنا عرابو اقتصاد السوق الاجتماعي على مدار سنوات خمس وهذه السادسة. مسيرة الألف ميل من التطوير قد تبدأ بخطوة إنتاج خدمات بدلاً من سلع، في ضوء تراجع الاستثمار الصناعي وتسيد النمط التجاري مشهد الأعمال في مناطقنا، وتقديم الدعم “بالقطارة”.
لا ضير، أن تغدو الاستثمارات في مجال الخدمات، المحور الأساسي لتطوير عمل المناطق الحرة مستقبلاً في سورية. فالخدمات التي تقدم للزبائن مثل تأشيرات المرور وشهادات المنشأ، فضلاً عن الاهتمام بحركة رأس المال وفتح فروع أو مكاتب تمثيل لتوريد الخدمة، قد تصاحبها تكنولوجيا عالية المستوى، ولاسيما أن المناطق الحرة قد أضحت أداة للتجارة الإلكترونية، في بعض الدول.
حماية صناعة الخدمات الوطنية في معظم الدول، تتم عن طريق تطبيق أنظمة خاصة على مشاركة الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وموردي الخدمات الأجانب في صناعات الخدمات المحلية مثل منع الاستثمارات الأجنبية في مجالات خدمات معينة، أو منع إقامة فروع للشركات تكون ضرورية لتقديم الخدمة، وعدم تطبيق مبدأ المعاملة الوطنية على المنتجين الأجانب للخدمة، إضافة إلى التمييز في المعاملة بين موردي الخدمات، من بلاد مختلفة عن طريق عدم تطبيق مبدأ الدولة الأولى بالرعاية. كل ما سبق، لا يعني تشديد القبضة في وجه الاستثمارات الأجنبية وفي هذا المجال تحديداً، فتقديرات البنك الدولي، تشير إلى أن رأسمال المناطق الحرة في سورية، يغلب عليه المكون المحلي بنسبة تتجاوز الـ 90 بالمئة، في حين أن دولة مثل سريلانكا تبلغ نسبة المكون الأجنبي في رأسمال مناطقها الحرة 67 بالمئة.

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]