غياب الجرأة في القرار فسادٌ إلا قليل.. وتغييبُ أصحاب المبادرات تقويضٌ للتنمية عن سابق إصرار

خاص – الخبير السوري:
قليل خبرة وفهم وعديم تجربة أيضاً، من يعتقد أننا نفتقر لحلول ناجعة لمعظم أو جميع ما يعترينا من مشكلات، إن في المضمار الاقتصادي أو باقي أوجه نشاطنا وأعمالنا، بل أكثر من ذلك دائماً نجد –وهذا لا يحتاج إلى براهين- أننا نخرج بأكثر من خيار حلّ، لكن عند هذه الخيارات تتجمد المساعي وتنكفئ الجهود، ويكون الإحجام سيد “الطاولة” لأننا باختصار نحتاج إلى قرار.
ولا نعتقد أن في توصيف كهذا، أو لنقل استنتاج، انتقاصاً من شأن أحد في أروقة القرار وخصوصاً الحكومية منها، بل هو تشخيص لمشكلة تعانيها هذه الأروقة أكثر من غيرها بسبب تعدد جهات الإملاء والبت والرأي وكل يدلي بدلوه ويدفع برؤيته، وعندما يكون لا رؤية محددة، يصبح من الواجب تسجيل موقف وغالباً يكون الرفض هو المنبر الأعلى والأوضح للظهور وتأكيد حضور الرافضين ووجودهم في وقت كادوا فيه يُنسون في زحام مساحات عمل وأداء لم يعد لهم فيها “شغل”.
إن حصيلة سنوات البحث الطويلة والعودة لما قبل الأزمة الراهنة ومعاينة مواضع الخلل والعيوب، سواء في التفاصيل التنفيذية أم في المسارات الإستراتيجية للعمل والأداء وقبل ذلك للتخطيط، الحصيلة كانت طويلة عريضة بعضها أُعلن بصراحة وبعضها الآخر لم يُعلن، تتضمن تشخيصاً لافتاً للانتباه أحياناً بدقته وصراحته في الاعتراف، كما تتضمّن حلولاً عميقة وجذرية، وهذا ليس فقط مجدداً بل منذ سنوات أو لنقل عدة عقود من الزمن، لكن المفاجأة التي تثير الأسئلة هنا، هي أن كل هذه الحلول بقيت في شكلها النظري المكتوب في محاضر جلسات اجتماعات مجالس الإدارات واللجان، دون أن تتعدى ذلك إلى مجال التنفيذ أو على الأقل الوصول إلى مرحلة النيات المعلنة.
وبالفعل إن تطرقنا لأية مشكلة صغيرة أو كبيرة طلباً للحل، يأتِنا الجواب بشكل شخصي غالباً مؤكداً أن الحل موجود منذ سنوات، لكن المطلوب من ينفذ ويتبنى الحل على عاتقه، لأن جهة كذا اعترضت، وأخرى توعَّدت، وثالثة لوَّحت، إلى آخر سلسلة “الخصوصية” المعروفة في مؤسساتنا، فيجري غض النظر لأن أحداً لا يريد لنفسه تهمة قد تصل إلى حدِّ تحويله إلى شماعة لتعليق فشل مؤسسة بأكملها.
الأمثلة كثيرة، على تفضيل تطبيقات المثل القائل: “مئة كلمة جبان ولا جملة رحمه الله”، والهروب دائماً ثلثا “المرجلة” حتى لو لم يقل أحد ذلك إلا أن حكمة الاعتراف بالأمر تعوِّم خياراً عفوياً كهذا عندما لا يكون المناخ ملائماً لاتخاذ قرار جريء يحتاج إلى تضحية ومسؤولية عالية.

المبادرات المخيفة
لأسباب كثيرة، بدت براءة الذمة أهم بكثير من المبادرة الصحيحة وهذه أكبر مشكلة تعترينا في زمن نحن فيه بأمس الحاجة للمبادرات، والحلول، والجرأة، والمرونة في المرور بين النواظم والضوابط التشريعية وتلافيفها، كي لا نخالف فقرة هنا أو جملة هناك، أو كلمة أو فتوى بالقياس أو الاجتهاد حيث لا نصوص.
وهذا ما سجل انحساراً في حجم المبادرات باتجاه تذليل كثير من العقبات التي باتت مزمنة، من النوع الذي نعانيه في يومياتنا أو يوميات مؤسساتنا، أو مؤسسة أو شركة ما، فالمبادرة تصطدم بعقدة على شكل نص قانوني أو بالقياس إليه، وهو نص ممكن التعديل لكنه باقٍ، وهذا ما يدفع بمزيد من الأسئلة إلى ذهن كل متابع لبعض التفاصيل المدهشة.
ورغم أننا لسنا في وارد تحقيق عن فكرة أو موضوع محدد في مادتنا هذه، إلا أننا نرى أن ثمة ضرورة لتقريب الصورة والمشهد عبر مثال يختصر الكثير من الشرح، فمنذ سنوات حتى الآن تسجل سلطتنا التنفيذية فشلاً في معالجة مشكلة فائض العمالة في مؤسسات وجهات القطاع العام، حتى لو كانت الجهات “خارج الخدمة” أي متوقفة عن العمل والإنتاج لسبب أو لآخر.
ولم تستطع أي حكومة من الحكومات التي تعاقبت على بلدنا منذ 20 عاماً حتى الآن إنفاذ قرار حاسم لمشكلة كهذه، بل بقيت مثار تداول أحياناً ساخن وأحياناً بارد، فقد فشلت مثلاً مبادرات من بادروا لإغلاق أبواب الشركات العامة المتوقفة عن العمل وإبقاء موظفيها في بيوتهم، ضغطاً للنفقات، والفشل كان بسبب اعتراض جهات ذات طابع إشرافي “غير فني” بزعم أنه ليس من المعقول فتح باب كهذا، وكانت الحصيلة أو إحدى النماذج المسجلة، أن ميزانية الشركات المتوقفة التي جوبه طلب إغلاق أبوابها بالرفض، خرجت بخسارة 50 مليون ليرة سورية أو ما يقارب ذلك، منها فقط 17 مليون ليرة رواتب عمال وموظفين يداومون بلا عمل ولا مهمة تسند إليهم!!.
الفرق 33 مليون ليرة ذهبت ثمناً لمحروقات وصيانة آليات وكهرباء ومياه ومرافق، و”عائدات” استثمار لجان المشتريات وشركائهم، وثقافة “لحسة الإصبع” في كل صرفية، وهذا يعني أننا دفعنا ثمن استعراض و”مناظرة وطنية” 33 مليون ليرة في شركة واحدة، فماذا عن باقي الشركات ذات الأوضاع المشابهة؟.
عباءات الخبراء الأجانب
إن محاولات النأي عن بؤر الاتهام في مسؤوليات تبني الحلول وخصوصاً تلك الموصوفة بأنها ذات أوزان ثقيلة أي تخص الحكايا ذات النفحة الاستراتيجية بحجمها وقيمها وكذلك حساسيتها، تلك المحاولات هي ما يدفع بنا غالباً إلى الاستعانة بخبراء أجانب لا يعرفون مشاكلنا ولا يتكلمون لغتنا، ولا يلمون بخصوصيتنا، مع ذلك نستعين بهم، ليخرجوا لنا بحلول لمشاكلنا وخصوصاً المستعصي منها، وكنا نستغرب دائماً لماذا نتجاهل أن “أهل مكة أدرى بشعابها” ونحاول “التعمشق” بأحزمة الإفرنجي أو من يحمل تفويضاً منه، إلى أن استنتجنا أن المهم أن نحمّل أحداً ما مسؤولية ما تخرج به من وجهات نظر حول تشخيصات الوقائع، والحلول المقترحة لها.
فالأجنبي مهما بلغ من الخبرة والدراية والحذاقة في الدراسة والتشخيص واستنباط الحلول، لن يكون قادراً على حل مشاكلنا كما نحن قادرون أو كما يبدو خبراؤنا، فنحن الأدرى بحيثيات ما عندنا، الصغير منها والكبير، وليس من المعقول أو المقبول أن يكون الأجنبي أدرى منا بشعابنا، لكن يبدو أن وجوده ضروري لتجاوز محفزات التنازع والاستفزاز وتحريك النيات السلبية “الشريرة” لدى البعض، ممن درجت ثقافتهم على أنهم يقبلونها من الغريب ولا يقبلونها من القريب، لذا نعتقد أن اقتراح إغلاق الشركات المتوقفة عن الإنتاج، وإراحة عمالها في بيوتهم مع منحهم رواتبهم توفيراً للنفقات، لو جاء على لسان خبراء أجانب كأن تكون مجموعة خبراء من “اليونيدو” المنظمة العربية للتنمية الصناعية لكان اقتراحاً مقبولاً، من الجهات التي سجلت اعتراضاتها، وأبطلت مفعول مشروع القرار الذي كان يهدف إلى إغلاق الشركات المتوقفة تماماً، أي كنا وفرنا على أنفسنا في حالة شركة واحدة مبلغ 33 مليون ليرة سورية سنوياً في شركة واحدة من الشركات قيد المعاناة التي ازداد عددها لدينا حالياً، وهو في ازدياد مطّرد على شكل متوالية لا ترحم، لذا قد يكون من المقنع أن نوكل للأجنبي بكل أفكارنا الإيجابية ليصرح بها بما أننا جاهزون للوقوع في غواية ما هو ليس منتجاً محلياً حتى لو كان فكرة.
وراء الكواليس
دعونا نستفد من توجه عام لمسنا شغفاً به لدينا خلال سنوات ما قبل الأزمة، ونعترف بأننا كنا نستهجنه وهو الإعجاب بالأجنبي وما يحمله إلينا من دراسات وأفكار قد نكون نحن السباقين إليها، لكن أن تخرج مضمنة في تقارير مذيلة بتوقيعه أو على لسانه مباشرة، وخصوصاً إذا كان بلكنة أميركية أو فرنسية، فسيكون لها طعم خاص.
نقول دعونا نستفد من ثقافة الإعجاب والامتثال لما يأتي به الأجنبي لنمرر بعض المسائل الحساسة التي لم نستطع تمريرها حتى الآن بسبب رفض جهات مختلفة –أحياناً جهة وأحياناً أكثر- ولا بأس أن نبدأ بسلسلة مرتبة ترتيباً مدروساً بعناية وفق تسلسل الأولويات.
فمثلاً نعمم دراسات الجدوى من حل أو دمج أو طرح شركة قطاع عام ميؤوس من إصلاحها، ونشير إلى الكفة الراجحة التي يرفض بعضنا قبولها وينجح في “المزاودة” على الجميع بأن القطاع العام خط أحمر –حتى لو كان رمَّة وجثة لا حراك فيها- نعتقد أن طرح دراسات كهذه والخروج باستنتاجات أن الحل بالشراكة وطرح الشركات للاستثمار، سيفتح الأبواب –وهذا ما حصل- علينا بشكل قد يصعب إغلاقه لاحقاً، لذا إن كانت الدراسات معززة بأرقام هي الأرقام التي خرجنا بها نفسها، لكن أن يأتي هذه المرة على لسان أو بتوقيع من يقدمون أنفسهم خبراء أجانب فهذا شيء مختلف لكن شريطة ألا يتحدث هؤلاء باللغة العربية وإن كانوا عرباً محسوبين على منظمات دولية، فلا بد أن تكون الصياغة والحديث بلغة أجنبية وعندها سنجد قائمة المصدِّقين تطول، فالقرار اتخذ على مسؤولية جهات أجنبية دارسة قبضت أجرها، ولا أحد هنا في الداخل –أحسن من أحد- الجميع في خانة واحدة من حيث الفهم والإحساس بالانتماء والغيرة على منشآت وممتلكات القطاع العام ومصالح “الطبقة العاملة ومكتسباتها أيضاً”.

أولوية وإلحاح
بما أن الفرصة سانحة للتمرير، سنقترح “تمرير” موضوعات على درجة كبيرة من الأهمية، وهو إعادة فرز العمالة الفائضة – ولدينا فوائض رغم التسرب الذي حصل – حيث يجري إبقاء هؤلاء في بيوتهم بعيداً عن المؤسسات والشركات التي يعملون فيها، وبناء على خيارهم على أن يتقاضوا ما نسبته 50 % من إجمالي الراتب المقطوع، بالتأكيد البعض يعتقد أن عدد من سيوافقون قليل، إلا أننا نجزم بأن العدد سيكون حوالي 50 % من العاملين وحوالي 75 % من النساء العاملات.. فنصف الراتب مع البقاء في المنزل إلى جانب الأطفال -للمتزوجات- هو أفضل بكثير من راتب كامل مع دوام وما يرتبه ذلك من نفقات ومتاعب.
الآن علينا ألا نحسبها من الجانب المتعلق بالعامل والموظف، بل سنحسبها من الجهة المتعلقة بالدولة كصاحب عمل ولنسأل عن حجم الوفورات المفترض أو المتوقع تحققها؟.
بداية وبشكل نظري ودون دراسة نعتقد أن حوالي 25 % من حجم العمالة سيوافق على اقتراح كهذا أي 50 % من العمالة النسائية بما أن نصف عمالتنا من الإناث، وعندها ستكون حصيلة الوفر حوالي 12.5 % من إجمالي كتلة الرواتب والأجور وهي نسبة تشكل حوالي 10 % من كتلة الرواتب والأجور أي حوالي 200 مليار ليرة سنوياً، وهذا هو الوفر المادي، يضاف إلى ذلك الوفر في النفقات والاستهلاك ونفقات المرافق، كل هذا يجب أن يكون محسوباً، ليضاف إلى أرباح تتعلق بسلامة الأسرة وبالجانب الاجتماعي الذي لا نستطيع إنكاره ولو أنكرته جميع المجتمعات الأخرى.
الفكرة جديرة بالبحث لأنها تعني 200 مليار ليرة وفورات، وتعني خفض عدد الموظفين وبالتالي إفساح المجال لإنتاجية أفضل لمن ينتج، وتعني خفض نسب الهدر في استهلاك المياه والطاقة، والأهم من كل ذلك أنها تعني بقاء الأمهات إلى جانب أطفالهن، دون حرمانهن من دخلٍ أغلبُهن بأمس الحاجة إليه.
استدراك وإلا..؟؟
لقد حدّدنا الأمهات في اقتراحنا، لأننا بدأنا نتوجس بناء على مشاهدات واستنتاجات يومية، من إنتاج جيل يهوى التشرد بالعادة وليس بالفطرة، باص المؤسسة أحد الرموز المهمة في حياته، ومشرفة الحضانة مثله الأعلى، إنها بضعة آلاف من الليرات شهرياً تتوعدنا بضياع مفهوم الأسرة، فلنأخذ قراراً جريئاً يبقي على الآلاف “الملعونة” وعلى الأسرة ولندرس الموضوع بجدية، فقد نجد أن التعامل مع الفائض من الموظفين والموظفات، سيكون أفضل بطريقة كهذه لأن أفضل الحلول أوسطها كي ” لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم”.
الأمثلة التي أوردناها ليست من باب التسلية بل هي من القضايا الاستراتيجية المطروحة بإلحاح.. ليس الآن بل منذ عقود أي أكثر من عقدين من الزمن لكنها ما زالت عالقة والمشكلة أن مسؤولية من يتبنى قراراً كبيراً كهذا سواء أكان رئيس مجلس وزراء أم وزيراً أم لجنة اقتصادية فالحالة متشابهة، بما أن المتصيّدين كُثر.. ومدَّعي حراسة مكاسب الدولة كُثر أيضاً.
لذا لم نمزح عندما اقترحنا أن تكون الأمور على مسؤولية مؤسسات ومكاتب دراسات خارجية.. عندها، على الأقل سنضمن عدم الاعتراض بسبب تنازع السيادة والصلاحيات على قطاع ما بين الحكومة وجهة أخرى، أو بين جهتين بعضهما مع بعضهما الآخر.

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]