التشريع المُلتبس أنتج غواية التهرُّب الضريبي…. كبار المتهرِّبين من ذوي الياقات البيضاء.. و”الموصومون” بالدخل المحدود أكثر التزاماً

 

الخبير السوري – حسن النابلسي:

تحدث أحد كبار المعنيّين بمكافحة التهرب الضريبي في سورية ذات مرة على هامش احتفالية افتتاح مبنى الهيئة العامة للضرائب والرسوم عن أهمية الضرائب وانعكاسها على المجتمع وتحسين الخدمات العامة، وضرورة نشر الوعي الضريبي لدى المكلفين حتى يتسنى لنا الارتقاء ببلادنا خدمياً وحضارياً..الخ، وعندما سئل عن أقنية صرف ما تتم جبايته من الضرائب قال (وهو مستفيض بالشرح): بالطبع يتم صرفها على الصحة والتعليم وتحسين البنية التحتية..الخ، لكنه صُعق بتعليق من أحد الزملاء عندما قاطعه بقوله: لن أتحدث عن البنية التحتية بكل تفاصيلها، لكنني سأسوق لك مثالاً يبرهن على عدم تصريف الضرائب كما يجب، حيث إن جميع سائقي القطر يشتكون من تدهور مستوى الطرقات لدينا علماً أنهم يدفعون -وخاصة أصحاب السيارات العامة- ضرائب ورسوماً ليست بالقليلة، ومع ذلك فإن الطرقات السورية لا تزال بعيدة كل البعد عن المقاييس والمعايير الدولية والعالمية، فأين إذاً انعكاس ما يدفعونه على الخدمات المقدمة لهم؟.

فأجاب المدير: عندما يكون لدينا مواطنون وسائقون عالميون نعطيهم خدمة عالمية؟.

للدلالة

سردنا هذه القصة لنبيّن مدى أهمية الثقة والمصداقية بين المكلفين والدوائر الضريبية، فمن المعروف عالمياً وجود صلة وثيقة بين التهرب الضريبي وقناعة المكلف بدفع الضريبة وخاصة في الدول المتقدمة، على اعتبار أن المكلف غالباً ما يكون على ثقة تامة بأن ما يدفعه من ضرائب سيرى انعكاسه على مستوى الخدمات المقدمة إليه، لذلك يعتبر التهرب الضريبي جريمة كبرى في تلك الدول، ويُنظر للمتهرّب بازدراء لكونه يتخلى عن المساهمة بتحسين بلده والارتقاء بالخدمات المقدمة للمصلحة العامة، أما المكلف غير الواثق بسبل وأقنية ما سيدفعه فلن يعدم الوسيلة التي تقيه شرّ الضريبة (حسب قول البعض)، ومن هنا يمكننا أن نتصور مستوى الصلة بين التهرب وقناعة المكلف بدفع ما يترتب عليه من ضرائب، فيما يخص الدول المتقدمة.

بعيدة عن العدالة

أما في بلادنا فلا يزال التهرب الضريبي يفرض نفسه على الساحة المالية كأكبر تحدٍّ تواجهه وزارة المال، ويؤكد العارفون بخفايا المال والأعمال أن حجمه يوازي التحصيل الضريبي المحقق إن لم نقل يزيد عليه، وذلك ليس نتيجة غياب الثقافة الضريبية الحقة، والثقة المتبادلة بين المكلف والدوائر الضريبية، وعدم لمس المكلفين انعكاس ما يدفعونه من ضرائب فحسب، بل هناك أسباب أخرى تتعلق بغياب العدالة الضريبية، وقصور التشريع الضريبي، حسب ما أكده الدكتور محمد خير العكام المتخصص بالمالية العامة والتشريع الضريبي، حيث أشار إلى وجود نوعين من العدالة الضريبية (أفقية ورأسية) فالأولى تعني أن الشخصين المتساويين بالدخل والثروة يجب أن يدفعا نفس الضريبة، أما الثانية فتعني: كلما ازداد دخل وثروة المكلف وجب عليه تحمل عبء ضريبي أعلى. وأضاف العكام: إذا طبقنا هذا التعريف على منظومة الضرائب في سورية نجدها بعيدة كلياً عن مفهوم العدالة، موضحاً أن قانون ضريبة الدخل السابق بكل تعديلاته البعيدة عن العدالة، كان أكثر عدالة من القانون 24 لعام 2003.

تناسب عكسي

وأكد العكام أن التناسب عكسي بين زيادة التهرب الضريبي وزيادة إحساس المكلف بالعدالة، فكلما شعر بأنه يدفع ضريبة عالية تتناسب مع قدرته على الدفع، اقتنع بالضريبة أكثر، فمنعه هذا الشعور من اللجوء إلى التهرب، وأن المشكلة في هذا البلد أن الذي يتهرب هو التاجر، فهو المتهرب النموذجي في سورية، وليس صاحب الدخل المحدود، مشيراً إلى أن الخلل في هذه المعادلة يكمن في التشريع وبعض التطبيقات، فمثلاً يمكن أن نجد محاميين دخلُ الأول يزيد على الثاني أضعافاً مضاعفة، ويمكن أن يكون التكليف الضريبي للثاني أعلى من الأول..وذلك لعدم وجود قواعد ناظمة، علماً أن القانون ينص على أن الوزير هو من يضع القواعد، لكن الأصح أن تضع النقابات المعنية بهذه المهنة أو تلك هذه القواعد وليس الوزير، أو على الأقل أن يكون هناك تعاون في هذا المجال، وأن تكون لجان الطعن الضريبي متوازنة من ناحية التشكيل، حيث لا تكون الكلمة الأولى والأخيرة لموظف الإدارة الضريبية أو الوزير كما هو الحال بالنص القانوني، فهذه مكامن شعور المكلف بأنه لا يحصل على العدالة الضريبية، لا بالتكليف ولا باعتراضه، لذلك كلما سنحت له الفرصة أن يتهرب فسوف يتهرب.

 

عدالة نسبية

وقال العكام: عندما اختار المشرِّع السوري الضرائب النوعية، ادّعى أنه اختار هذا النوع من أجل تحقيق العدالة، وكانت هذه العدالة بالفعل محققة نسبياً عندما ميّز بين ضريبة الأرباح وضريبة الرواتب والأجور، فكانت معدلات ضريبة الأرباح تصل إلى 66% على آخر شريحة، بينما تصل معدلات ضريبة الرواتب والأجور إلى 15% بالنسبة لذوي الرواتب الكبيرة، على اعتبار أن قدرة أصحاب الدخل المحدود على الدفع أقل من أصحاب رؤوس الأموال الذين تفرض عليهم ضريبة الأرباح وبالتالي يتحملون عبئاً ضريبياً أعلى، وهنا حقق المشرّع الضريبي السابق العدالة النسبية في التمييز بالمعاملة الضريبية بين الذين تطبق عليهم ضريبة الأرباح، والذين تطبق عليهم ضريبة الرواتب والأجور.

نقلة مفترضة

وبيّن العكام أنه كان من المفترض بالقانون 24 الانتقال من نظام الضرائب النوعية إلى نظام الضرائب العامة بتطبيق ضريبة الدخل من أجل تحقيق العدالة الضريبية، لأن الضريبة العامة قادرة على قياس العبء الضريبي على المكلف الواحد لكونها تجمع كل مصادر الدخول للمكلف الواحد، وبالتالي يمكن قياس قدرته على الدفع، لأن المكلف في الضريبة النوعية يحاسب على أن له أوعية ضريبية مختلفة، كل منها مستقل عن الآخر، وعندما توحد وتفرض بقواعد موحدة يصبح بالإمكان معرفة دخل وثروة المكلف وعلى أساسها يتم فرض الضريبة بمعدلات تصاعدية، مشيراً إلى أن ظاهر القانون 60 لعام 2004 جيد وجوهره سيئ، حيث إن القانون غيّر طريقة حساب الضريبة وجعلها على حساب المقاولين الذين يتعاملون بعقود مع الجهات العامة والقطاع التعاوني والمشترك، فبدلاً من أن تكون على الدخل الصافي، جعلها على قيمة العقد وبنسب معينة، تتراوح بين 2- 7% من قيمة العقد، موضحاً أن ظاهر هذا القانون يبين أنه أغلق ثغرة حول التهرب الضريبي، لكن باطنه حوّل الضريبة من ضريبة غير قابلة للانعكاس إلى ضريبة قابلة للانعكاس، أي إن المتعاقد مع الدولة هو المكلف القانوني بدفعها، لكن الذي يتحمل عبئها هو الدولة ذاتها، لأنها أصبحت تنعكس على قيمة هذه العقود، وبالتالي لم يعد المتعاقد مع الدولة يدفع أي ضريبة عن هذه العقود، بينما في السابق كان يدفعها وإن كان يتهرب جزئياً منها.

 

 

خدمة لرجال الأعمال

وخلص العكام إلى أن التشريع الضريبي يخدم رجال الأعمال أكثر مما يخدم ذوي الدخل المحدود، على اعتبار أن المشرّع زاد معدلات ضريبة الرواتب والأجور فرفعها بالشريحة الأخيرة من 15% إلى 20% وهذا على حساب العدالة، بينما معدلات ضريبة الأرباح انخفضت من 66% عام 1949 إلى 45% عام 1991 ومن ثم إلى 35% عام 2003 لتنخفض عام 2006 إلى 28%، بينما معدلات الرواتب والأجور ارتفعت بدلاً من أن تنخفض وهذا على حساب العدالة.

مظلومون

من جهته اعتبر أحد الصناعيين أن العدالة الضريبية موجودة بنسبة 50%، وأن كثيراً من رجال الأعمال مظلومون بضرائبهم العالية، وآخرين يحسنون التهرب منها وخاصة أولئك أصحاب الورش العاملة في الظل، مشيراً إلى أن الضريبة أصبحت تشكل عبئاً كبيراً على المكلفين من رجال الأعمال وخاصة في ظل الأوضاع الحالية وتراجع عجلة الصناعة لدرجة أن أي رقم ضريبي أصبح يؤثر فيهم، وأصبح الصناعي يحاول التخفيف من عمالته ومساحة إنتاجه، فهناك نحو 90% من معاملنا إما متوقفة عن العمل، أو خففت عمالتها، أو صغرت منشآتها، ولم يعد بمقدور الصناعي دفع الضرائب والتأمينات ومستلزمات الإنتاج..إلخ.

وقال الصناعي: عندما يعامل الصناعي بالحق والمنطق لا يتهرب من الضريبة، لأن التهرب جريمة يجب أن يحاسب عليها القانون، لكن في المقابل لابد أن تكون القوانين والتشريعات الضريبية عادلة ومنصفة لكل المستويات، إضافة إلى نزاهة الكادر الضريبي الذي يتعامل مع المكلف.

 

 

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]