«من يغيّر عادته تقل سعادته» حكمة كبار المتهربين ضريبياً.. والمالية أدمنت «لحسة الإصبع»

 

خاص – الخبير السوري:

جناح للعناية الفائقة، خصصته ذات يوم وزارة المالية لكبار المكلفين، والمصنفين على رأس قائمة المتهربين من سداد مستحقات أرباحهم للخزينة العامة، وبات هذا الجناح أشبه بفندق خمس نجوم، والهدف منه حثُّ هؤلاء على سداد مستحقاتهم المتراكمة منذ سنوات، وحاولنا جاهدين معرفة الغاية الحكومية من هذه الخطوة إلا أننا مُنينا بالفشل الذريع، فهل كانت مجرد محاولة لإحصاء أعداد هؤلاء “الكبار”، والاستمتاع برؤيتهم -للمرة الأولى- في أروقة وزارة المالية بزيارتهم الممنونة تلك؟! أم إنها كانت محاولة جدية لإغرائهم -على حدّ زعم الوزارة- لكونها تؤمن البنية التحتية الجيدة للتحصيل العملي؟! ولكن انطلاقاً من أن الأمور تقاس بسياقها ونتائجها،لم نجد أن هذا الجناح قد ساهم في زيادة التحصيل الضريبي من كبار المتهربين تاريخياً..

 

«كلشي بحسابو»..

جندت وزارة المالية منذ عام 2009 طاقتها في إغراء المتهربين من سداد مستحقاتهم، وخصوصاً الكبار منهم، وهم أصحاب الفعاليات الاقتصادية، والتجارية، وكبار رجال الأعمال، ولجأت الوزارة للحملات الإعلامية، والإعلانات الطرقية، وأنشأت قسماً خاصاً بكبار المكلفين، وقدمت كل التسهيلات والإعفاءات لهؤلاء من غرامات التأخير، وخفضت الضريبة على الأرباح من 66% إلى نحو 14% بالحد الأدنى و28% بالحد الأعلى للشركات، أي إن الضريبة انخفضت من 2 – 4 أضعاف، إلا أن التهرب كان يسير على قدم وساق، فـ«من يغيّر عادته تقل سعادته»، فكيف ستكون القضية بالنسبة لتاجر اعتاد لسنوات طوال على التهرب من استحقاقات الخزينة العامة بالاتفاق مع موظف المالية؟! الذي أدمن «لحسة الإصبع»، وامتهن ترتيب أمور المتهربين الكبار، وبالطبع «كلشي بحسابو»..

سطوة ثقافة التهرُّب

كل الإعفاءات فشلت في إحداث اختراق جدي لطبقة المتهربين الكبار من سداد مستحقاتهم للخزينة، وهذا دليل قاطع على أن قضية التهرب بالنسبة لهم لا ترتبط بحجم ما يفرض عليهم من ضرائب، ولا بادعائهم الدائم الإرهاق من حجم هذه الضرائب، وإنما لكونهم تربّوا على ثقافة التهرب الضريبي، واعتادوا على ممارستها، والتفنن في الهروب منها، وهذه الثقافة هي التي تمنعهم من الالتزام بسداد مستحقات الدولة، فلا التسهيلات ولا الإعفاءات تغري المتهربين ضريبياً، لسطوة ثقافة التهرّب التي تتملكهم، فإذا لم يجد التاجر الرادع الحقيقي الذي يرغمه على سداد ضرائبه، فإنه لن يلتزم بدفعها من تلقاء نفسه وطواعية بالتأكيد، لأننا لم نوصل طبقة المتهربين الكبار إلى هذه الثقافة الراقية بعد..

 

التهرّب أرباح غير مشروعة

الفجوة بين الحصيلة الضريبية والتهرب الضريبي تتسع، وهذا يعني في محصلة الأمر أن مليارات الليرات السورية تدخل إلى جيوب هؤلاء المتهربين الكبار كأرباح غير مشروعة، بدلاً من وصولها لأروقة الخزينة العامة، وتوزيعها بعد ذلك على شكل رواتب، ومشاريع استثمارية حكومية، ومعونات اجتماعية، فالمستفيدون قلة، والمتضررون ملايين السوريين، وهذا لا يعامل بالاستعطاف، ولا بالإغراء، أو الاستجداء الحثيث على دفع ما يتوجب عليهم، كما تتعامل وزارة المالية معهم الآن، وخلال السنوات الطويلة الماضية، بل إن ما يمارسه هؤلاء هو شكل من أشكال الفساد الذي يستنزف الخزينة العامة، وما يدفعونه من ضرائب مشرعن في القانون، ويجب تطبيقه، وهم بدفعهم لرسومهم لا يمنون على أحد، لأنهم يحصلون في مقابله على أضعاف مضاعفة من الأرباح..

 

تناقض

الدراسات الاقتصادية السابقة للأزمة الراهنة، تشير إلى أن الـ20% من المكلفين الكبار يؤدون نحو 80% من حجم الضرائب الإجمالية التي تدخل الخزينة العامة، بينما يدفع الـ80% الباقون من المكلفين 20% من الضرائب، أي إن العبء الضريبي يقع على كاهل المكلفين الكبار (تجار، صناعيين، فعاليات اقتصادية، محلات كبرى، مولات، مجمعات.. إلخ)، وبتطبيق القاعدة السابقة على التحصيل الضريبي لدينا يتبيّن حجم الخلل، فالإيرادات الضريبية الإجمالية ارتفعت من نحو 205 مليارات ليرة في عام 2005 إلى 337 مليار ليرة في عام 2009، بينما ازدادت الضريبة المحصلة على دخل المهن والحرف الصناعية والتجارية وغير التجارية من نحو 114 مليار ليرة في عام 2005، لتصل إلى 142 ملياراً في عام 2009، وهذا يعني أن إجمالي ما يدفعه القطاع الخاص من ضرائب قد انخفض بنسبة 13%، وذلك من 55% في عام 2005 قياساً إلى الضرائب المحصلة الإجمالية، إلى 42% من هذه الضرائب في عام 2009، على الرغم من تشكيله ما يقارب 65% من الناتج المحلي الإجمالي لسورية، حسب الادعاءات الرسمية، أي إن القطاع الخاص بكل مكلفيه بمن فيهم الكبار والمتوسطون والصغار لم يساهم سوى بـ 40% من إجمالي الضرائب، وهو لا يتجاوز الدراسات العالمية التي اعتمدت في تحقيقنا إلا بـ100% فقط، أي بتهرب تكلفته الدنيا تعادل حجم ما يتم تحصيله من القطاع الخاص اليوم (142 مليار ليرة)..

الحصيلة الإجمالية للضرائب ارتفعت بمقدار 132 مليار ليرة سورية بين عامي 2005 و2009، وبنسبة 64%، وفي المقابل، ارتفعت الضريبة المحصلة على دخل المهن والحرف الصناعية والتجارية وغير التجارية بمقدار 28 مليار ليرة سورية خلال هذه السنوات الخمس، وبنسبة 16,5% فقط، أي إن الفارق بين الحصيلة الإجمالية والحصيلة على أرباح المهن والحرف الصناعية والتجارية وغير التجارية وصل إلى 104 مليارات ليرة، وهذا يعني أن الفارق الكبير قد تم تحصيله من جيوب السوريين عبر ضرائب غير مباشرة تضاف إلى سعر السلعة التي يدفعها المواطن السوري من جيبه في محصلة  الأمر!..

 

ازدواجية في التعاطي

التعاطي المزدوج مع مواطني بلد ما من جانب حكومتهم هو ما لا يمكن تفهمه، وخصوصاً إذا ما كان كل منهما قد خالف القانون، فالتخلف عن سداد فاتورة الكهرباء لعدة أشهر من جانب أحد المواطنين لأسباب تتعلق بضيق الحال، هو مخالفة للقانون، وخسائر الخزينة عندها لا تتجاوز 10 – 20 ألف ليرة، ويعاقب صاحبها بالحبس، والغرامة، وقطع التيار الكهربائي، وفي الحالة الأخرى، متهرّب كبير من سداد مستحقاته الضريبية لأعوام عدة نتيجة للجشع (تجار، ومنشآت كبرى)، وفي هذه الحالة هو يخالف القانون أيضاً، ويلتهم المليارات من الخزينة العامة، إلا أن الإجراءات الحكومية لا تتجاوز حدود الإعفاء من الغرامات، وتكثيف الحملات الإعلامية، والاسترضاء الممزوج بالترجي لدفع ما يترتب عليهم من ضرائب، أوليس الاثنان – قانوناً – في خانة المتخلفين عن سداد مستحقات الدولة؟! ومن منهم الأكثر تأثيراً في الاقتصاد؟! ألا يعتبر هذا التعاطي المزدوج أحد مشجعات هؤلاء الكبار على زيادة تهربهم؟!.

 

 

 

 

 

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]