الأوراسية ونظرية “دوغين” السياسية الرابعة

الخبير السوري – كتب المحامي قيس الكفري:

يمكن أن تعود أصول الأوراسية كحركة إلى أوائل القرن العشرين في روسيا، عندما وضع مفكرون مثل نيكولاي تروبتسكوي وبيوتر سافيتسكي الأساس لرؤية جديدة لهوية روسيا ومكانتها في العالم، تتمحور حول فكرة مفادها أن روسيا حضارة فريدة تأثرت بالحضارات الشرقية والغربية، مما يتطلب رسم مسار متميز لها، بدلاً من محاكاة النماذج الغربية.

وتمثل الأوراسية في جوهرها خروجاً جذرياً عن النموذج العالمي السائد، المتمحور حول الغرب ونموذج الحضارة الغربية والذي ظهر بعد الحرب الباردة، وهي تدعو إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب، تلعب فيه دول أوراسيا أدواراً محورية، متحدين هيمنة الليبرالية الغربية ودافعين نحو نظام دولي أكثر توازناً وتنوعاً.

واليوم أصبح اسم الفيلسوف والكاتب الروسي ألكسندر دوغين مرادفاً لإحياء الأوراسية وتأسيس أيديولوجيا جديدة تماماً وهي النظرية السياسية الرابعة، التي تقول بأن الموضوع الرئيسي للسياسة ليس الفردانية أو الصراع الطبقي أو الأمة، بل الوجود نفسه، وتدور حول نقد أساس الآيديولوجيات الثلاث السائدة في القرن العشرين “الليبرالية، والشيوعية، والفاشية”، حيث يؤكد دوغين أن هذه الأيديولوجيات أدت إلى الشمولية والقمع والتجانس الاندماجي للثقافة العالمية بحلة غربية،  وتأتي النظرية السياسية الرابعة لتسعى إلى صياغة مسار آيديولوجي جديد، يمزج بين القومية والمحافظة على التقاليد والثقافات الوطنية، ورفض مفهوم العالمية”Universalism” مما يشجع على إدراك قيمة الحفاظ على الهويات الثقافية المتميزة مع تعزيز التعاون فيما بينها.

والأهم من ذلك، أن نظرية دوغين تدعو إلى مفهوم “التعددية القطبية”، وتروج لعالم يتميز بمراكز قوى متعددة بدلاً من الهيكل السائد أحادي القطب الذي تهيمن عليه قوة عظمى واحدة، وفي هذه الرؤية تتعايش الحضارات والثقافات المتنوعة، وتنخرط في حوار حضاري دبلوماسي وجيوسياسي، مع المحافظة على هوياتها الفريدة.

وقد تبنت زعامة فلاديمير بوتين في روسيا عناصر من هذه الايدولوجيا في طريق السعي لتوسيع النفوذ الروسي على الساحة الدولية، حيث تروج هذه الايديولوجيا لفكرة الحضارة الأوراسية المتميزة، وتتصور نظاماً عالمياً متعدد الأقطاب، مما يتوافق مع رؤية بوتين لروسيا باعتبارها قوة موازنة للهيمنة الغربية، ويظهر هذا في تعزيز التعاون بين مجموعة بريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون، وإقامة شراكات استراتيجية بين روسيا والصين والهند وإيران، مما قاد إلى ضم أعضاء جدد الى مجموعة البريكس التي تسعى اليوم إلى توسيع تعاونها المرتكز على القضايا الاقتصادية والجيوسياسية ليصل لخلق توافق آيديولوجي بين دول المجموعة، ويعكس هذا الاصطفاف رؤية مشتركة للتعددية القطبية ومواجهة الهيمنة الغربية وتوسيع نفوذ المجموعة بهدف إرساء نظام عالمي متعدد وإنهاء الهيمنة الأمريكية، .

وقد أثرت نظرية دوجين السياسية الرابعة، بتأكيدها على التعددية القطبية ورفض العالمية الغربية، على نهج بوتين في السياسة الخارجية، حيث اتبعت روسيا سياسة خارجية حازمة، تتحدى الغرب وتقف في وجه المشاريع الغربية في أوروبا وافريقيا والشرق الاوسط، حيث قدمت الأوراسية والنظرية السياسية الرابعة أطراً فكرية تتوافق مع رؤية بوتين لروسيا القوية والمستقلة، فأثرت بشكل كبير على قراراته في مجال السياسة الخارجية.

ومع كل الافكار الجذابة حقيقةً التي يأتي بها دوغين والتي تغرينا كشعوب تحاول الحفاظ على هوياتها الثقافية وسيادة أوطانها وتحاول لعب دور أكبر على الساحة الدولية، يجب علينا تفهم المخاوف الغربية والانتقادات التي تحيط بأفكاره، حيث أن طموحاته الجيوسياسية، وخاصة رؤية “الإمبراطورية الأوراسية” التي تمتد من لشبونة إلى فلاديفوستوك، تثير الخوف الغربي من أن تكون هذه النظرية محاولة لتوسيع النفوذ الروسي على حساب الدول المجاورة مما يشكل تحدياً لسيادة الدول الأوروبية الصغيرة المجاورة لروسيا.

وفي حين أن الأوراسية والنظرية السياسية الرابعة قد تكونان مثيرتان للجدل بالنسبة للبعض، فإنهما تقدمان منظوراً بديلاً للسياسة العالمية السائدة وللدور الذي تلعبه أوراسيا في تشكيل النظام العالمي، وإن التعامل مع هذه الأفكار بشكل نقدي، يعد أمراً ضرورياً لتقويمها وتحسينها، لتعزيز قدرتها على التأثير على الحركات السياسية وبالتالي على السياسة الدولية، فنظرية دوغين عن التعددية القطبية تدعونا إلى التشكيك في نظرية القطب الواحد وتركيز القوة مما يسمح باستكشاف مسارات جديدة متنوعة لمستقبل التنمية، وتذكرنا بأن الأيديولوجيات السياسية لا تزال تتجدد وتتشكل وتشكل عالمنا، مما يدعو إلى إعادة تقييم الوضع الراهن والنظر في نماذج بديلة محتملة يمكن أن تفتح آفاقاً جديدة وخاصة للدول التي حوصرت بإطار مفهوم العالم الثالث، وسواء كنا نتبنى هذه الأفكار أو نعارضها، فهي شهادة على القوة الدائمة للفكر السياسي في تشكيل المشهد العالمي.

‎المحامي قيس الكفري

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]