عندما تضرب الحرب أي دولة ويطول أمدها، بالتأكيد سيكون لها آثار كارثية على المجتمع، فهي أولاً تدمّر الاقتصاد والاستقرار والأمن، والأخطر أنها تدمّر الإنسان نفسياً واجتماعياً وتجعله في أسوأ حال بهدف شلّه وجعله عاجزاً عن الصمود.
في سورية وبعد حرب دخلت عامها الثالث عشر عانينا وما زلنا نعاني من آثارها، وفيما يتعلّق بالأذى النفسي والاجتماعي، فلا يخفى على أحد أنه كان كبيراً، فالسوريون كانوا يعيشون بأمان واستقرار نفسي واجتماعي إلى حدّ كبير قبل الحرب، لذا لم تكن الآثار التي خلّفتها الحرب سهلة عليهم، بدءاً من الأزمة الاقتصادية نتيجة تدمير البنى التحتية للاقتصاد إلى استمرار العقوبات، والتحريض والتضليل الإعلامي، بهدف زعزعة الثقة بين الشعب ودولته، وصولاً إلى الصدمات النفسية التي زادت بفعل الأزمات والكوارث الصحية والطبيعة كأزمة كورونا والزلزال، وبذلك لم يُتح بعد للشعب السوري أن يتخلّص من آثار هذه الحرب والشفاء من مفرزاتها النفسية والاجتماعية.
اضطراب الحروب
وبنظرة عامة يلاحظ أن الشباب هم الفئة الأكثر إصابة، والسبب برأيهم هو انكماش أحلامهم وتلاشي أمنياتهم نتيجة الحرب والظرف الاقتصادي الصعب.
وبرأي الطبيب النفسي محمود خليل أن معظم الحالات المرضية النفسية التي يعاني منها السوريون تُسمّى اضطراب الحروب، وتصل في الأغلب إلى الاضطراب الشديد ما بعد الرض وهو الأكثر شيوعاً وحضوراً في ظروف الحرب ليس في المجتمع السوري فقط، بل في كلّ بلدان العالم التي تعرّضت للحروب، وأشار إلى أنه يلاحظ في عيادته أن نسبة أمراض القلق الاكتئابي زادت في الآونة الأخيرة، وأصبحت السمة الغالبة في المجتمع السوري والأشدّ هو الاكتئاب المزمن وانفصام الشخصية، أي الاكتئاب المترافق مع القلق ونسبته لا تقلّ عن 99% من السوريين أي يصيب كل فئات المجتمع، وبيّن أن الوضع الاقتصادي الضاغط زاد الطين بلّة، على عكس ما اعتقد البعض أنه بغياب مظاهر الحرب يمكن أن تقلّ هذه الحالات، لكنها للأسف زادت، وزادت معها معايير الاكتئاب، فبحسب المقاييس العالمية لتشخيص الاكتئاب هناك بين كلّ ستة أشخاص يوجد حالة اكتئاب مترافقة مع القلق، أما الآن إذا أخذنا عينة من 12 شخصاً فسنجد أن جميعهم محققون لنتائج المرض ونجد منهم في مرحلة أشدّ وهي الاكتئاب الذهاني وهو نوع فرعي من الاكتئاب، ينتمي إلى مجموعة تُعرف باسم مجموعة اضطرابات الحالات المزاجية.
مرضى المناهضين
قد يعتقد البعض أن حالات الاكتئاب ليست بالأمر المخيف الذي يدعو للقلق، أو أنه مرض سهل الشفاء وعرضي لا يتسبّب بالأذى والخوف، لكن المؤشرات الطبية لا تقول ذلك، فبحسب خليل ازدادت نسبة هذه الأمراض وفي هذه الحالات يصبح الشخص غير مسؤول عن تصرفاته، ولا يدرك ما يفعله من أذى وضرر للمجتمع ولنفسه، فهي تترافق مع كثرة الجرائم وتزداد آثاره نتيجة الفقر والضيق المادي لذلك هي تحتاج لحلول جذرية.
ويضيف خليل: كنّا نأمل بعد انتهاء الحرب أنها ستخفف من حدة هذه الحالات، لكن الأزمة الاقتصادية لم تسمح برفع نسبة الشفاء، فالواقع فرض نفسه على الجميع، وزادت الجريمة بنسبة كبيرة مع زيادة الأمراض النفسية، فهناك نمو طردي بينها وبين الجريمة، موضحاً أن هذه الأمراض منتشرة في السجون بما يُسمّى مرضى المناهضين للمجتمع واضطراب الشخصية الحادية، وهؤلاء لديهم اكتئاب وقلق يترافق مع التعاطي للمواد المخدرة، مما يحقق فعل الجريمة خاصة في ظل التغيّرات والتقلبات، حيث يكون المريض فاقداً لإدراك الواقع والإرادة والسيطرة على ذاته، كما يعاني المريض من حالة تشويش ذهني، أو فقدان للتوجّه والشعور الدائم بالذهول وعدم وضوح الرؤية، بالإضافة إلى الاندفاعات العنيفة والعصبية وثورة وهياج، أي فصل العقل عن الواقع وعدم إدراك ما يجري حوله، كما يصيبه هلوسات وهي أشدّ حالات الاكتئاب التي تنشأ من فقدان الأمان الاقتصادي وغيره.
في المدارس
تأثر الأطفال خلال فترة الحرب أيضاً، وخاصة الذين عانوا من حرمان أحد الأبوين أو كلاهما، ويذكر الدكتور خليل أن هؤلاء يعانون من الحرمان العاطفي وهي ظاهرة متفشية في مجتمعنا، وتسبّب اضطرابات كثيرة منها اضطراب النوم والقلق واكتئاب، وفي حالات شديدة تتحول إلى عنف شديد غير مبرّر وعصبية، بالإضافة إلى التبول الليلي اللا إرادي، كما ظهرت أمراض كثيرة تجاوزت ما تمّ دراسته علمياً كنقص التركيز والانتباه واضطراب مسلك الطفل كالعناد ورفض طاعة الوالدين أو أي فرد في العائلة، أو المدرسة وكثرة التشاجر مع الزملاء ومعلميه، وخاصة الأطفال الذين لديهم حساسية عالية، بالإضافة لأمراض عصبية، مشيراً إلى تزايد حالات القلق والاكتئاب في المدارس بشكل واضح وأعراضه تتجلّى في قلة الحفظ وضعف الذاكرة واستيعاب ضعيف مما يسبّب التراجع العلمي والأداء الاجتماعي.
زيادة طلب
في الحديث مع أكثر من صيدلاني لم يخفِ الجميع أن هناك طلباً متزايداً على أدوية الاكتئاب، مشيرين إلى أن البعض يسأل عن دواء معيّن، وبسؤال الصيادلة عن خصوصية تلك الأدوية قالوا إنها تعالج القلق النفسي أو العقد النفسية الناتجة عن أسباب قاهرة بسبب الحرب والكوارث الأخيرة كالزلزال، عدا عن هموم المعيشة.
نحتاج لوقت طويل
ولم تبتعد آراء عدد من الباحثين في علم الاجتماع عن الرأي والتحليل السابق، إذ أجمعوا أن عصرنا الحاضر يعدّ عصر الضغوط النفسية، في ظل الحرب وظهور الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والكوارث البشرية والطبيعية والتي بمجملها تسبّب الضغوط النفسية التي تشلّ حياة الإنسان داخل أسرته وفي بيئة العمل ويكون لها الكثير من المنعكسات السلبية الخطيرة على صحته الجسدية والنفسية، بالإضافة إلى حدوث خلل في إنتاجية العمل الفردي، بل إنتاج المؤسّسة ككل، عدا عن الشعور بعدم الرضا الوظيفي، وهو ما يتمثل بقلة التوازن بين حياة العمل والحياة الاجتماعية للفرد، وتشير الدراسات إلى أن العاملين الذين يعانون من ضغوط نفسية يحتاجون لوقت طويل في احتواء هذا الضغط والسيطرة عليه أو التكيّف معه، لذا من هنا جاءت أهمية إيجاد الحلول المناسبة للتعامل مع الضغوط النفسية للحدّ منها أو إبقائها ضمن المستوى العادي، ولعلّ أهم ما يجب العمل عليه هو وضع خطة عمل لعلاج تلك المشكلات والبحث عن حلول لها، كما يجب وبمساعدة الإعلام إعداد برامج التوعية والبرامج الموجّهة التي تساعد كل أطياف المجتمع في تفهم الواقع والظروف المحيطة بهم.