حقائق مرّة.. على سيرة الهجرة؟؟!!

ناظم عيد – الخبير السوري

 لم تعد ظاهرة هجرة السورين مجرّد حالة ميكانيكية، بل تفاقمت بشكل من شأنه عدم القبول بإدراجها في سياق المسائل المسكوت عنها..ونعلم أن أذهان الكثيرين ستذهب مباشرة بالاتجاه ذاته الذي اختاره رواد وسائل التواصل وهواة ” جلد الدولة” لجهة الظروف والمسوّغات، وهو اتجاه بغيض مقيت مفعم بـ ” الطاقة السلبية” التي تُوزّع أحياناً من قبل متطوعين ببراءة المكتوي بلفح الحرب وتبعاتها التقليدية – لكنها براءة لم تعد تشفع أمام خطورة وتفاقم ما يجري – و أحياناً أخرى بشكل منظّم ومدروس وممنهج غايته تشجيع وتحفيز الهجرة، لنمسي في كلا الحالتين أمام مكنة استقطاب خارجية خبيثة لا يمكن تأويلها مطلقاً إلا على أنها إستراتيجيّة “تهجير” سافرة بكل معنى الكلمة، لا تختلف بتاتاً عن حالات التهجير القسري المشهودة في التاريخ الحديث لكن بتكتيكات مختلفة، تبرئ الفاعل وتلقي التهمة على الأوطان والدول الوطنية التي بدت مصدّرة ولافظة للعقول والمقدرات والبشر عموماً..؟!!

 الحالة السورية تستوجب الآن خروج المثقفين والإعلاميين عن صمتهم – الصمت الرّاهن مريب وغريب بل وعجيب – وكشف حقائق ما بين السطور، و إيقاظ من أخذتهم الغفوة على أحلام الصدور الدافئة والدروب المفروشة بالورود، في بلدان مقصد أشرعت أبوابها خبثاً وليس كرماً، لإفراغ هذه البلاد من أهلها لاسيما النخب العلمية والمهنية والمالية، و كم كنّا واهمين حين ظننا أننا لسنا بحاجة لمن يوضّح ويشرح، خصوصاً بعد دروس مدفوعة الثمن عبر عقد من السنين كانت حافلةً حتى التخمة بأشكال و ألوان الاستهداف..لكن إن كان ولابد فلا بأس بطرح بعض الأفكار لمن ما زال مستعداً لتقبّل الحقائق المرّة.

  • لابدّ أن نذكّر بالحقيقة الأكثر مرارةً وهي أن طقوس الهجرة إلى الغرب خلال الحروب والأزمات هي ظاهرة عربية – أكرر عربية – بدأت بلبنان، ثم العراق لاسيما بعد حرب الخليج الثانية ودخول الأميركي، واليوم في سورية، أي محاولات إفراغ بلدان محددة – لازمة في سياق الاستهداف المصلحي الغربي – من كلّ مقومات إعادة النهوض أو حتى احتمالات النهوض يوماً..وعلينا أن نعاين المشهدين اللبناني والعراقي حالياً رغم مرور سنين طويلة على محنتهم الأساس، ولا نظن أننا بحاجة إلى محللين لنكتشف حالة الإخفاق المحزنة لهذين البلدين في معاودة النهوض، رغم محاولات متكررة وكثيرة على مرّ السنين الماضية..لكن مازال في الوقت بقية لننتبه نحن السوريين.

نعم الهجرة ” التهجير” طقس عربي، و إلا لماذا لم يُهاجر الروس ويتركوا بلدهم خلال حروب كثيرة كانت من أشرس حروب التاريخ، كما لم يُهاجر الألمان هرباً من أخطر مذابح تعرضوا لها، ولا الإنكليز ولا الفرنسيون في حرب المائة عام التي استمرّت 116 سنة، ولا الأميركيين في حروبهم الداخلية الكثيرة، ولا الأسبان ولا كلّ شعوب أوروبا الشرقية….لم تهاجر هذه الشعوب رغم حكايا الجوع والعوز التي ألمّت بهم واضطرتهم لأكل لحوم القطط والكلاب وكل ما يدبّ على هذه الأرض من حشرات، لكنهم لم يهاجروا، بل بقوا في بلدانهم المدمرة و أعادوا بناءها بسرعات قياسية..وبقيت المعاناة في عداد الذكريات السوداء التي كانت مادة دسمة للأدباء والنتاج الأدبي الغزير الذي وصل إلينا و قرأه معظمنا.. لكن يبدو أننا نسيناه وهانحن نهاجر ونقع فريسة جائحة مصنّعة خصيصاً لبلادنا ؟!!

  • تتحدثون عن هجرة الأدمغة السورية…هذا عنوان هام وبارز ” يلوكه” معظم من تولّوا ضخّ الطاقة السلبية في أوصالنا، حتى ربما لم يبقَ بيننا أحد – بسببهم – إلا وأخذته الحالة الغريزية و حالة اللاوعي للحظات للتفكير بالهجرة لكن صحوة العقل تكفلت بصحوة السلوك …

 تتحدثون عن هجرة الأدمغة..وبالنسبة لهذه “الأدمغة” بالتحديد،  يبدو علينا طرح بعض التساؤلات..فأي أدمغة هذه التي لم تسعفها إمكاناتها الذهنيّة لاستنتاج أن بلدها أمام حالة تهجير وليس هجرة ؟؟..

و أي “أدمغة” لم تمكنها ملكاتها العقلية من إدراك أن خروجها من بلدها يعني صبّ الزيت على لهب الأزمة وتفويت فرصة إنقاذ و ترميم وبناء هي واجب وليست خياراً ولا منّة ؟؟

أي أدمغة حفظت و أتقنت مهارات الطب والهندسة وكل أصناف العلوم التقنية والإنسانية ونسيت دروس الانتماء التي تظاهرت يوماً بأنها حفظتها عن ظهر قلب؟؟

  • أما فيما يخص هجرة الأموال ..فلهذه حديثها المليء بالشجون، والغاصّ بتفاصيل يعرفها أصحابها ” المتململون” من رجال الأعمال أكثر من غيرهم.

ولمن لا يعلم ..معظم من أطلقوا على أنفسهم ألقاب طنانة رنانة من رجال الأعمال الذين هاجروا أو “توعدوا بلدهم وحكومتها” بالهجرة، هم أساساً أصحاب استثمارات في الخارج – ليس فقط في مصر – بنوا استثماراتهم هناك منذ عقود من ” دسم” استثماراتهم في سورية ..” وقود مدعوم..وكهرباء مدعومة وشبه مجانية..إعفاءات جمركية..مخصصات صناعية مدعومة الاستيراد..قروض مدعومة وغالباً قروض لم تُسدّد .. دعم صادرات..عمالة رخيصة…والأهم تهرّب ضريبي”، أي لم يكن خيرهم لبلدهم يوماً، استثمروا سورية ولم يكونوا مستثمرين في سورية..؟؟!

لم يوفّق رجال الأعمال الهاربون في اختيار الذريعة المقنعة لهروبهم إلى استثماراتهم في الخارج…فقد حظي الصناعي السوري خلال السنوات الأخيرة – خصوصاً في السنتين الأخيرتين – بدعم حكومي منقطع النظير..خصّتهم الدولة بكهرباء مستدامة على حساب القطاعات الأخرى، ومنحتهم قروضاً بفائدة مخفّضة وتسهيلات مغرية، وأعفتهم من كل الرسوم المفروضة على مدخلات الإنتاج، وخصّتهم بدعم مغرٍ لصادراتهم..والأهم من كل ذلك أن السيد رئيس الجمهورية قد خصّهم بزيارات ميدانية إلى المدن الصناعية و أولاهم دعماً وتشجيعاً خاصاً لأنهم جزء من منظومة الإنتاج التي تسعى الدولة بكل طاقاتها لدعمها وتعزيزها…

والسؤال الأهم هنا…لماذا بقي من بقي من الصناعيين ورجال الأعمال، يعملون ويقدمون مبادرات اقتصادية وحتى إنسانية لافتة، في ذات الظروف والبيئة التي يتذمر منها من اعتزموا الهروب.

وهناك رجال أعمال – أسماؤهم معروفة – عادوا بأسرهم منذ بداية الحرب على سورية ونقلوا أعمالهم إليها، حتى أن أولادهم لم يكونوا يجيدون اللغة العربية المكتوبة – المحكية فقط – لأنهم ولدوا ونشؤوا في الخارج، وما زالوا حتى هذا اليوم في سورية.

    نختم بمقتطف من حديث رئيس مجلس الوزراء أمس أمام مجلس الشعب، فالرجل قد أوجز ما يجب أن يفكّر به عقل أي سوري ” الدماغ السوري” :

 “الأرقام الرسمية لدينا تثبت أن عدد المواطنين العائدين للمساهمة لبناء بلدهم، تفوق بكثير عدد المغادرين. فرهاننا على ثقة المواطن السوري ببلده كبيرة، يعززها تاريخ من الصمود والثقة بالنصر والنهوض.

الوطن لا يمكن أن يكون فحسب محلاً لكسبِ الدخول وتجميعِ الثروات، ولا يمكن أن يكون فقط مقصداً للراحة والتنزُّه. الوطنُ محلٌّ للانتماءِ والكرامة. الوطنُ جغرافيا محدَّدةٌ بعبقِ التاريخ، وتاريخٌ عريقٌ بسياجِ الجغرافيا، ولا يمكن لأي قطعةٍ جغرافية انتقائيةٍ أن تصبح وطناً للفرد. كما لا يمكن للوطنِ أن يكون فرصةً يتمُّ اختيارُها من قائمة الدول التي تمكن الهجرة إليها. الوطن فرصةٌ وحيدةٌ علينا أن نجعلَها الأفضل في قائمة الدول والأوطان”.

عموماً ..

من قال أن بيئة الحرب بيئة جاذبة لرؤوس الأموال؟؟.. بالتأكيد ليست كذلك..لكن مثل هذا الحديث يصح في حال كانت رؤوس الأموال غير سورية أي قادمة للاستثمار من الخارج..وعندما تندلع الحرب يحزم المستثمر الأجنبي حقائبه ويغادر ..على اعتبار ليس له مصلحة في البقاء ..لكن يبقى أبناء البلد ولا يغادروا مهما اشتدت أزمة بلدهم..يحاولوا يقدموا أفكاراً بناءة حتى يصوبوا أخطاء ..لكن لا يهربوا، لا يهربوا من الحريق بل يساهموا في إطفائه.

وكذلك بالنسبة للبشر..يهرب السياح والبعثات الدولية والطلاب الدارسون والموظفون المقيمون..أما أبناء البلد لا يهربون..فالوطن بالنسبة لأهله ليس فندق خمس نجوم أبداً…

هامش1: نحن أمام حالة مصيرية تقتضي تفكيراً عميقاً ومحاكمة عقلية عالية..المسألة مسألة وطن وليس تسجيل مواقف واستقطاب أكبر عدد ممكن من شارات الإعجاب على وسائل التواصل الاجتماعي..فليكن نقاشنا هادئاً

هامش2: العنوان الأهم الذي تسرّب وانتشر من أروقة البحث والدراسة في العالم الغربي هو ذلك المتعلّق بـ” الطاقة السلبيّة” ..القاتل الصّامت والدّاء الخبيث المحبط والمثبّط للأفراد، والمدمّر للمجتمعات التي يجتاحها، خاصّة وأنه سريع الانتقال ..قابل للانتشار في متواليات يستنسخ بعضها بعضاً على شكل جائحة فتّاكة..فلنفكّر قبل أن نوزع حزم الطاقة القاتلة بيننا.

هامش 3: هناك حكاية قصيرة تدولها بعض النشطاء على وسائل التواصل، مفادها أن رجلاً مسنّاً رغب في اختبار وفاء أولاده له، بعد أن شقّ لهم طرقهم الآمنة نحو المستقبل، فطلب من زوجته إبلاغهم بأنه مصاب بفيروس  كورونا، أبلغتهم الأم وطلبت منهم زيارته لأنه يرغب برؤيتهم، لكن المفاجأة أنهم اعتذروا واكتفوا بالاطمئنان عبر الهاتف…لاحقاً أخبرتهم الأم أن الأب قد توفي وتولت الدولة دفنه، فلم يبادر أحد منهم حتى لمشاركة أمهم العزاء..بعد مضي فترة دعتهم الأم لزيارتها بما أنها سليمة غير مصابة، واختبأ الأب في غرفة جانية، وكانت المفاجأة بأنهم حضروا جميعاً مع المحامي لاقتسام التركة، وكان خروج الأب إليهم صدمة للجميع..إلا أن الأخير طردهم وباع أملاكه وتبرع بها لمراكز العلاج من فيروس كورونا…احذروا “كورونا” أيها الهاربون من الفيروس.

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]