الخبير السوري:
شهدت الفترة الأخيرة جهوداً بحثية وأممية متكرّرة هدفت في جانب منها إلى تسليط الضوء على حجم الكارثة السورية
شهدت سنوات الحرب العشر الماضية تحوّلاتٍ سياسية وعسكرية واقتصادية مختلفة، غيّر بعضها من مسار الحرب ومجرياتها بشكل كامل، فيما قلَب بعضها الآخر خريطة النفوذ السياسي الإقليمي والدولي في المنطقة. بالتوازي، كانت ثمّة تحوُّلات أخرى، لا تقلّ أهمية، تُحدث أثرها بعيداً عن الأضواء، من دون أن تحظى بمقاربة موضوعية لطبيعتها وتداعياتها
تتجلّى استثنائية الحرب السورية في حقيقتَين رئيستَين: الخسائر الاقتصادية والاجتماعية المهولة التي تسبّبت فيها هذه الحرب، وتحديداً في ما يتعلّق بظاهرتَي النزوح الإنساني والدمار الذي لحق بمكوّنات رأسمال المال، والتحوّلات السياسية والعسكرية والاقتصادية الكبرى التي تخلّلت سنواتها العشر، وقادت إلى جملة متغيّرات على الساحتين الإقليمية والدولية، لن يكون من السهل تجاوز تأثيراتها في المدى المنظور.
وإذا كانت الفترة الماضية قد سجّلت جهوداً بحثية وأممية متكرّرة، هدفت في جانب منها إلى تسليط الضوء على حجم الكارثة السورية من بوّابة الخسائر الاقتصادية والاجتماعية، ونجحت في ذلك نوعاً ما، فإن الحديث عن التحوّلات الكبرى التي ميّزت العَقد الأول من الحرب، بقي في إطار التوثيق المباشر لمجريات المعارك العسكرية المهمّة، أو المتغيّرات الإقليمية والدولية ذات الصلة، من دون أن تكون هناك مقاربة موضوعية لطبيعة التحوُّلات العميقة غير المنظورة التي كانت تجري توازياً. وهذا ما يتفق معه الدكتور عصام التكروري، رئيس قسم القانون العام في كلية الحقوق في جامعة دمشق، وعضو “اللجنة الدستورية الموسّعة”، الذي يَذكر، في حديثه إلى “الأخبار”، أنه “عند الحديث عن التحوُّلات الكبرى في الحروب، غالباً ما يتمّ تسليط الضوء على التحوُّلات الميدانية، في حين لا تحظى مثلاً التحوُّلات على صعيد القانون الدولي بالاهتمام المطلوب، هذا إذا تمّ تسليط الضوء عليها أساساً”.
وفي هذا السياق، يشير التكروري إلى تحوُّلَين مهمَّين على صعيد القانون الدولي: الأول، استخدام واشنطن وحلفائها للقرار 2170/ 2014 كرافعة لارتكاب جريمة العدوان ضدّ الدولة السورية خلافاً لميثاق الأمم المتّحدة؛ إذ إنهم، وبعد أن دعموا بكلّ الوسائل ظهور “داعش”، عمدوا إلى تشكيل “تحالف دولي” بذريعة القضاء على التنظيم، لكن مِن خارج الآلية التي نصّ عليها ذلك الميثاق، والتي اشترطت شرطين أساسيين لشرعية أيّ تدخُّل عسكري يهدف إلى الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، وهما أن يتّخذ مجلس الأمن قراراً يعلِن فيه أن وضعاً معيّناً بات يُشكّل تهديداً للأمن والسلم الدوليَين، وأن يمنح تفويضاً صريحاً باستخدام القوة العسكرية تحت إشرافه. لكن الذي حصل هو أن واشنطن اختطفت القرار 2170، ليتّضح اليوم أن هدفه ليس القضاء على “داعش”، بل ضبط تمدّد التنظيم والسيطرة عليه، ومن ثمّ احتلال المناطق التي ينحسر منها، وصولاً إلى احتلال أميركي معلَن لمساحات واسعة من الشمال السوري جنباً إلى جنب مع وجود محدود لـ”داعش”.
أمّا التحوُّل الثاني فيتمثّل، بحسب التكروري، في ارتكاب جرائم بالجملة ضدّ الشعب السوري تحت مسمّى “التدابير الاقتصادية القهرية الأحادية الجانب”، المفروضة من الاتحاد الأوروبي منذ 2011، وما يُعرف “بقانون قيصر” الأميركي الذي دخل حيّز التنفيذ في حزيران/ يوليو 2020. تُشكّل هذه الإجراءات خروجاً على ميثاق الأمم المتحدة، لكون النتائج التي أدّت إليها (أكثر من 12 مليون شخص داخل سوريا بحاجة إلى مساعدات إنسانية، 5.2 ملايين منهم بحاجة ماسّة إلى المساعدات، بحسب تقرير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لعام 2020) تُمثّل جرائم يعاقب عليها ميثاق روما لـ”المحكمة الجنائية الدولية” بوصفها إبادة جماعية، وجرائم ضدّ الإنسانية، وجرائم حرب.
احتلالات وولاءات
صحيح أن سوريا باتت، لأسباب كثيرة، محوراً لتجاذبات دولية، يعتقد البعض أنها قد تكون بداية مخاض لنظام عالمي جديد، إلا أن ذلك أدّى في المقابل إلى تحوُّل كبير في الدور الإقليمي الذي كانت تضطلع به دمشق. وبحسب الكاتب السياسي، مازن بلال، فإن “التحوّل الأساسي في الأزمة السورية هو في انتهاء الدور الإقليمي الذي رافق صنّاع القرار السوري منذ الاستقلال، إذ إن البلاد فقدت فائض السيادة الذي جعل منها دولة محورية، وجعل تأثيرها يتجاوز ممكناتها الجغرافية، فهي اليوم ليست أمام احتلالات عسكرية فقط، بل أمام ولاءات مختلفة تتوزّع باتجاه التركي أحياناً، أو الأميركي ضمن مناطق سيطرة قسد”.
شكّلت سوريا محوراً لتجاذبات دولية يَعتقد البعض أنها قد تكون بداية مخاض لنظام عالمي جديد
التعليقات مغلقة.