مزايانا النسبية والمطلقة تضيع في أروقة استرخاء إداراتنا الاقتصادية.. بعثرة موارد وخلط أوراق

 

 

خاص – الخبير السوري:

 

ثمة الكثير من نقاط الخلل الهيكلية في الاقتصاد السوري، والتي تعود إلى سنين عديدة سابقة، وتعمقت هذه الاختلالات بفعل السياسات الاقتصادية التي تم اتباعها ليس الآن وإنما طيلة سنوات ما قبل الأزمة الراهنة، ما ساهم في تعميق أزمة الاقتصاد السوري، لكن وفي مقابل ذلك، ثمة العديد من نقاط القوة والإمكانات غير المستثمرة كنتاج لإهمال السياسات الحكومية ذاتها، فالبدائل الممكنة لإخراج الاقتصاد من واقعه الحالي متوفرة، إي عندما نخرج من الحرب التي تدار علينا بحقد أسود، ولكن مشكلة الماضي تجسدت باستمرار اعتماد السياسات الاقتصادية على المزايا النسبية التي يملكها الاقتصاد ضمن الحدود الدنيا، ونسيان العديد من المزايا المطلقة المتوافرة التي يمكنها أن تعزز مكانة هذا الاقتصاد، أو ضرورة تفعيل المزايا النسبية بتحويلها إلى مطلقة، فما هي هذه المزايا؟! وكيف يمكن تفعيلها؟!.

 

الحل الجذري بالموارد الداخلية

عدم تمتع أي اقتصاد بمزايا مهمة يمكن إحالته إلى «القضاء والقدر» وعناصر الجغرافيا والجيولوجيا والموقع، لكن أن يزخر بلد ما بأنواع من المزايا غير المفعّلة أو المستثمرة، فهذا ما لا يمكن فهمه، إذ يرى د. غسان طيارة وزير الصناعة السابق أن المشكلة تكمن في «غياب الوضوح بالرؤية الاقتصادية لتنمية البلد»..

فالبحث عن مكامن الضعف والقوة في الاقتصاد هو الحلقة الأساس على طريق تفعيله، وهذا التفعيل المرتبط أساساً برفع القيمة المضافة له ولموارده، فالمواد الخارجية غير متوفرة اليوم في ظل الأزمة الحالية، والاستثمار شبه متوقف، لا بل إن التعويل على هذه الاستثمارات بالأساس كمخرج لأي اقتصاد لا يعد نوعاً من الرشاد الاقتصادي، لأن الحل الجذري يتمثل في الموارد الداخلية، ولكن، أين هذه الموارد؟! فهل العمل على أساس المزايا النسبية التي عمل بها للاقتصاد السوري تاريخياً (قطن، نفط، …إلخ) يكفي؟! أم يجب الذهاب إلى المزايا المطلقة في الاقتصاد، والتي لم نعمل عليها حتى الآن؟! وخصوصاً أن الاقتصاد قد شهد تطورات محدودة خلال الأربعين عاماً الماضية بالاعتماد على المزايا النسبية فقط، وضمن أطر ضيقة جداً! وهذا ما جاء ليؤكده د. طيارة موضحاً أن المطلوب هو «تفعيل الزراعة الصناعية بالدرجة الأولى، فالقطن – والكلام لـ د. طيارة – يحقق كمزية نسبية قيمة زائدة بمقدار 12 ضعفاً إذا ما تم تحويله لألبسة جاهزة، والفوسفات يضاعف القيمة الزائدة المحققة بمقدار 5 أضعاف إذا ما تم تحويله إلى أسمدة»…

 

50% من الصادرات خام

الاقتصاد السوري تقليدي، وهو يعتمد على الكثير من المواد الأولية، والقليل من الفكر، وبالتالي هناك انخفاض في القيمة المضافة الناتجة مقارنة مع الاقتصاد المعرفي الذي تكون فيه المواد الأولية المستخدمة قليلة، وينتج قيمة مضافة عالية، فالنظر إلى الميزان التجاري السوري يدعم هذا الادعاء الذي نرى موضوعيته، حيث إن 50% من الصادرات السورية تكون على شكل مواد خام (أكثر من 250 مليار ليرة)، والجزء الباقي يتوزع على شكل مواد نصف مصنعة، وأخرى مصنعة، وهذا يؤكد حقيقة أن الاقتصاد السوري لا يزال بجوهره تقليدياً، لأن الجهات المعنية لم تسعَ إلى تطويره باتجاه تعظيم فائدة موارده..

القطن أولى المزايا التي لم يستفد منها البلد بالشكل المطلوب بسبب سوء الإدارة الاقتصادية للموارد، فسورية كانت تنتج اليوم 700 ألف طن من القطن تقريباً، وكان الرقم يتجاوز 1 مليون طن في الماضي القريب، إلا أن سورية لم تستفد من هذه المزية النسبية لأقطاننا إلا من خلال تصدير الجزء الأكبر منها كمادة خام أولية (خيوط وغزول)، وفي ذلك إضعاف وتحجيم لهذه المزية النسبية التي ترتكز عليها العديد من الصناعات مثل صناعة وحلج الأقطان، والخيوط القطنية، وصناعة المنسوجات، والأقمشة القطنية، وصناعة القطن للاستخدامات الطبية والصناعية، وكذلك صناعة الزيوت من بذور القطن، لكن هذا لم يتم إلا بشكل جزئي وبسيط..

فإحدى الدراسات الاقتصادية تؤكد أن تصنيع الأقطان قبل بيعها يرفع القيمة المضافة لها بمقدار 12 ضعفاً، وهذا يعني أيضاً، وعلى الضفة الأخرى تشغيل أيدٍ عاملة كبيرة في مراحل الإنتاج المختلفة من جهة، وتطوير الصناعة الوطنية وتنمية إمكاناتها، كما أنها تعظم درجة الاستفادة من الميزات النسبية عبر تحويلها إلى مزايا مطلقة بهذه الحالة..

 

مزية أخرى تسقط سهواً

والنفط الخام ليس مزية أقل أهمية من القطن، والاقتصاد سار لعقود على منوال تصدير النفط الخام وشراء المشتقات النفطية – كنا ننتج قبل الأزمة ما يقارب 400 ألف برميل يومياً – ولا يمكن أن نستمر على هذه الحال، وهذا يدخل في إطار ضرورة تفعيل المزايا النسبية للاقتصاد السوري، فثلث النفط السوري يصدر خاماً (قرابة 130 ألف برميل يومياً)، مقارنة مع إنتاج كان يبلغ – بدقة – في العام 2010نحو 385 ألف برميل يومياً، وفي المقابل فشل في مشاريع المصافي الثلاث التي لا تزال متعثرة، والمعلن عن إنشائها منذ عام 2007..

فمن المستغرب أن يباع جزء من النفط السوري خاماً، بينما نجد دولاً تستورد كامل حاجتها النفطية خاماً لتقوم هي بتكريره، وتأمين حاجة سوقها المحلية من المشتقات النفطية، لا بل إن هذه الدول تبيع مجدداً هذه المشتقات إلى الدول التي استوردت منها النفط الخام، ولكن بأسعار مضاعفة بالتأكيد، فكوريا الجنوبية -غير المنتجة للنفط- تستورد 85% من احتياجاتها النفطية خاماً من الشرق الأوسط، ومن دول الخليج العربي وإيران أيضاً، والمفارقة هي أن كوريا تمتلك ثاني وثالث أكبر المصافي النفطية في العالم بعد مجمع التكرير- باراغوانا في فنزويلا، وذلك حسب تصنيفات مجلة النفط والغاز العالمية، وهذه المصافي الكورية هي، SK Energy Ulsan Refinery في المرتبة الثانية عالمياً بطاقة إنتاجية تصل إلى 840 ألف برميل يومياً، وفي المرتبة الثالثة Yeosu Refinery (GS Caltex) بطاقة إنتاجية 700 ألف برميل يومياً، بالإضافة إلى مصفاة S-Oil Ulsan Refinery (S-Oil) الكورية التي تعد تاسع أكبر مصفاة في العالم بطاقة إنتاجية 520 ألف برميل يومياً.. وتمتلك هولندا غير المنتجة للنفط أيضاً، أكبر المصافي على المستوى العالمي مثلShell Pernis Refinery التي تحتل المرتبة 19 عالمياً بطاقة إنتاجية تصل إلى 416 ألف برميل يومياً.

فإنشاء مصفاة للنفط كان يكلف 2 مليار دولار أو أكثر بقليل، وهذا الرقم قد يعتبره البعض كبيراً، ولكن التفكير بشطب المشتقات النفطية من قائمة المستوردات، إذا ما تم إنشاء مصفاة نفطية ثالثة فقط، فهذا يعني توفيراً بمقدار عشرات المليارات سنوياً بالحد الأدنى من قيمة المشتقات النفطية المستوردة بأسعار عالية، أفلا يستحق ذلك تفعيل هذه المزية النسبية بجعلها مطلقة، لأنها بحدود كونها مادة خاماً لم تعد تخدم التطور المستقبلي للاقتصاد السوري..

 

المزايا المطلقة هي الأفضل

المزايا المطلقة بكل الأحوال هي الأفضل، واستغلال غنى سورية بها يعتبر الحل المحلي والمستقبلي لتنمية الاقتصاد، فالورود النادرة كثيرة، ويصل عددها إلى المئات من الأنواع والفروع ذات الميزات المطلقة في سورية، ويمكن استخدام خلاصاتها في الصناعات الدوائية والتجميلية، وفي حال تصنيعها يمكن تصديرها بأسعار عالية، وكذلك هي حال الأعشاب العربية التي تستخدم في مجال الطب أيضاً، وهذه كلها حتى الآن غير مفعّلة، لا بل إن الدولة ممثلة بالإدارة الاقتصادية لم تبحث عن هذه المزايا، أو تسعَ لاكتشافها بالحد الأدنى..

البحث عن هذه المزايا المطلقة وتحفيز الاستثمار الحكومي فيها مطلوب، وهي المحدد لمستقبل الاقتصاد، وعند هذه النقطة أوضح د. طيارة أن سورية تمتلك الكثير من هذه الميزات المطلقة «كالأعشاب الطبيعية، والبابونج، والورد الجوري، والياسمين، والأعشاب الطبية، وإلى الآن لا يستفاد منها، ولم تُعطَ الاهتمام اللازم، فالأعشاب الطبيعية تحتاج إلى استثمار، وإذا لم يكن لدينا إمكانية فلنستفد من أصدقائنا كإيران، والصين، والهند الذين يمتلكون شهرة في هذا المجال، فالقضية تحتاج إلى قرار واهتمام من الدولة»..

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]