فساد برقيب وحسيب؟!..بقلم:ناظم عيد

إن كان من مساءلة واجبة في سياق معالجات ملفات الفساد، فلا بدّ أن يكون “المسؤول” رقم واحد هو الجهات الرقابية، قبل شاغلي المواقع التنفيذية ومطارح الشبهات، وهذه مسلّمات منطقية لا نعتقد أنها محط جدل بتاتاً.
فآليات الرقابة تقوم على بُعد وقائي “إرشادي”، ولدينا جهاز كبير متخصّص في ذلك، وبُعد تفتيشي استقصائي تضطلع به هيئة شهيرة يُحكى أنها طائلة الذراع، وقبل هاتين الجهتين تنطوي كافة الجهات الحكومية على دوائر أو مديريات رقابة داخلية، يتباهى موظفوها بتسمية “الرقابة الفعّالة”، لذا لن يكون من الحكمة التسليم ببراءة هذه الأجهزة، إن سلّمنا بالانتشار الأفقي الواسع لظاهرة الفساد في مؤسساتنا.
الواقع أننا لا نرجو توزيع الاتهامات غير المؤكّدة بوثائق، لكننا على يقين من أن ثمّة مشكلة عميقة في أدبيات عمل أجهزتنا الرقابية، التي تغرق في التفاصيل الصغيرة وتقف مطوّلاً عند مسائل ليست ذات أثر حقيقي في تقويم اعوجاج سلوك موظف أو مدير.. وقد عاينا ملاحظات رقابية تتحدّث عن “إنفاق ترفي” في مكتب مدير يستخدم عدداً غير لازم من مصابيح الإنارة، دون التقاط خطأ أو ارتكاب كلّف المؤسسة أو الشركة ذاتها مليارات الليرات؟!..
ورغم ما يُشاع عن المساحات التي تشغلها ممارسات الفساد، يمكن لأي كان تلمس حجم الحذر والخوف – حتى الرعب- من الأجهزة الرقابية بين الموظفين الصغار في مؤسسات ووزارات الدولة، لدرجة أن بعضهم يفضّل ألّا يعمل أبداً، على أن يعمل ويخطئ، لأن الترجمة الرقابية لمصطلح الخطأ هي “الارتكاب”، ليبقى التساؤل الذي يلح علينا جميعاً هنا، على شكل استفسار نزق عن سرّ مثل هذا التناقض المريب: انتعاش الفساد في ظل رقابة متشددة؟!.
لن يطول البحث بمن يتصدى لمهمة فك اللغز، ليكتشف أن الذهنية الرقابية وآليات عملها المرتكسة هي السبب: دوران حول الشكليات، التموضع عند المستويات السطحية لما يجري في أروقة المؤسسات، الاستسلام لحرفية نص قانون أو قرار، إلغاء البُعد الثالث الخاص بتقديرات من يعاين ويتحرى بقصد الرقابة، عدم التمييز بين الخطأ والارتكاب في أداء الموظف أو المدير، وهذه ليست تُهماً للأجهزة الرقابية أو لموظفيها، فلهؤلاء معاناتهم أيضاً، وقد سمعنا شكاوى من كثيرين منهم، حول ضيق المساحات المتروكة لحراكهم في الأنظمة التي تحكم أداءهم، وعدم وجود ما يحصّنهم من ردّات فعل كبار الموظفين، فيكون الصغار هم الهدف لرفع العتب وإبراء الذمم تجاه استحقاقات عمل قطاعي بمقتضى نظام المجموعات المعمول به في الجهاز المركزي للرقابة المالية، والهيئة المركزية للرقابة والتفتيش.
بغض النظر عن تعدد الآراء في هذا الشأن، نعتقد أن ثمّة توافقاً على وجود مشكلة في أداء الأجهزة الرقابية، إن بقيت قائمة فسيبقى الخلل قائماً، ولا نلمّح هنا إلى تبعية هذه الأجهزة للسلطة التنفيذية – وهذا خطأ لا بد من استدراكه– بل المسألة تتعلّق بمجمل ما يحكم عمل هذه الأجهزة.
على كل حال لا بد من معالجة شاملة لهيكلية الأجهزة الرقابية، وصياغة أدبيات جديدة لتعاطيها مع أعمالها، والأهم “سد ذرائع” قتل المبادرات، من منطلق الاقتناع بأن “الأخطاء خبرة والخبرة طريق النجاح”.
فمن قصص الإدارة المنقولة للعبرة، أن مديراً رفض استقالة موظف نادم على خطأ تسبب بخسارة الشركة عشرة ملايين دولار، وذُيّل الرفض بعبارة: “لا يمكن الموافقة على استقالة موظف كلّف تدريبه الشركة للتو عشرة ملايين دولار”.

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]