تشخيص بأدوات متخصصة…”البازار” حلقة خارجة على القانون في مضمار السوق السورية تنتج سلسلة أوجاع مستهلك وحكومة

خاص – الخبير السوري:
يمثل تسويق المنتجات الزراعية السورية التحدي الأبرز الذي تتعرض له عملية الإنتاج الزراعي والحيواني، فالمنتجون يعانون من انخفاض أسعار منتجاتهم الزراعية ومن ارتفاع تكاليف الإنتاج إلى مستويات غير مسبوقة قد تفوق في معظم الأحيان أسعار المبيع، ما يوقع المزارعين في دائرة الخسائر التي قد تؤدي بهم إلى هجر العمل الزراعي أحياناً، والابتعاد عن زراعة محاصيل لا تحقق عوائد مالية جيدة في المواسم اللاحقة ما يتسبب بارتفاع منتجات معينة وندرتها في السوق، ومن يتتبع سير عملية التسويق الزراعي يجد أن المنتِج والمستهلك هما الحلقة الأضعف في هذه العملية، الأمر الذي يثير جملة من التساؤلات، أولها على عاتق من تقع مسؤولية تسويق المنتجات الزراعية، وإذا كان المنتج يشكو من تدني الأسعار فلماذا يعاني المستهلك من لهيب تلك الأسعار، وما دور حلقات الوساطة المرتبطة بالسوق بخلق حالة الخلل هذه؟ وأين تقف كل من وزارة الزراعة والاقتصاد واتحاد الغرف الزراعية من عملية التسويق الزراعي، وهل يمكن لمؤسسة واحدة كمؤسسة الخزن والتسويق التصدي لهذا الدور؟.
البيضة والتقشيرة
تدور عملية تسويق المنتجات الزراعية ضمن حلقة مفرغة لا يجني ثمار دورانها سوى تاجر سوق الهال وبائع المفرق، ولا يوجد خيار أمام المزارع سوى أن يبيع إلى تاجر الكمسيون في سوق الهال ومنه إلى تاجر الجملة ثم إلى بائع المفرق وأخيراً إلى المستهلك، ومَن تبدأ وتنتهي بهما هذه السلسلة هما الخاسران الوحيدان، فالمزارع يبيع بسعر يحدّده تاجر سوق الهال وكذلك يخضع المستهلك للأسعار التي يحددها تاجر المفرق، وقد أكد عدد من الفلاحين الذين التقيناهم في سوق الهال بدمشق أن ثمن المحاصيل بات لا يعادل التكاليف المرتفعة لإتمام دورة الإنتاج، فأسعار البذور والأسمدة والمبيدات الزراعية ومعدات الإنتاج وأجور العمالة مرتفعة جداً، وقالوا إنهم باتوا يحصلون على أسعار زهيدة جداً لا تتوافق مع الجهود المبذولة لإيصال المنتج إلى السوق حيث يأخذ تاجر الكمسيون ما بين 7.5- 8 % من السعر الإجمالي لكمية المحصول الكلية التي يسوقها لهم والتي تنتقل منه إلى تاجر الجملة وهما متفقان ضمنياً على السعر فيما بينهما ما يعرّض المزارع للاستغلال، ويقوم تجار الجملة بدورهم ببيع تجار المفرق الذين يضيفون ربحاً قد يتجاوز سعر شراء المنتج الأساسي، فقد أكد المزارع محمد عبدو بجقة أن الربح الكبير يذهب للتجار ونحن نقف ونتفرج على استغلالهم لنا، فقد بعت 1 كيلوغرام البندورة للتاجر بـ 11 ليرة وشاهدته كيف قام ببيعه إلى تاجر المفرق بـ 25 ليرة الذي سيبيعه للناس بـ 35 – 40 ليرة كحد أدنى، فليس من المعقول أن يجني هؤلاء تعبنا لشهور كاملة.
كذلك قال المزارع جميل مصطفى النونو من ريف حماة: لقد جئنا بمنتجاتنا الشتوية إلى سوق الهال في دمشق، معتقدين أن الأسعار ستكون منصفة لنا، لكن يبدو أن جميع التجار متشابهون فنحن نتعب والأرباح تصب في جيوبهم، فهم يشترون كميات كبيرة من محصول الخضروات الشتوية بأسعار منخفضة، فمثلاً يباع الطن الواحد من الملفوف في سوق الهال للتاجر بمبلغ 12-15 ألف ليرة، في حين يشتريه تاجر الجملة بمبلغ 6-8 آلاف ليرة من الفلاح، ويباع 1 كيلوغرام للمستهلك بـ 18-25 ليرة.
ويضيف المزارع فهد محمود البلخي من درعا: يتعاقد معظم المزارعين مع التجار الذين يأتون من خارج المحافظة لشراء المحاصيل مباشرة من أرض الإنتاج بأسعار تقل عن التكلفة الحقيقية للإنتاج مع إعطاء هامش ربح بسيط حيث تتجاوز أرباح تجار الجملة والمفرق في موسم جني محصول البندورة مثلاً أكثر من 20 %.
نشرة أسعار غير عادلة
ويشير أحد التجار إلى أنه لا يستطيع أحد تحديد الأسعار فهي تخضع للعرض والطلب وحجم توفر المادة في السوق، فإن وجدت بكثرة ينخفض سعرها، ولا يتقن الفلاحون تسويق منتجاتهم برأيه فهم ينزلون محاصيلهم إلى السوق بشكل متواصل ودفعة واحدة، بينما يجيد التجار معرفة الوقت الذي يسوقون فيه المنتج، ويدفعونه إلى بائعي المفرق ويجنون الأرباح من المستهلكين. وقد ذكر لنا مصدر في وزارة التجارة الداخلية “فضل عدم ذكر اسمه” أن الحل لا يكمن فقط بتسيير دوريات حماية المستهلك لمعرفة مدى تقيد الباعة بنشرة الأسعار الصادرة عن الوزارة، وإنما يجب أن تساهم وزارة الاقتصاد بتوزيع الأرباح بشكل عادل بما يتناسب مع التكلفة والمجهود لكل من المزارع والتاجر على حد سواء، حيث إن النشرة الصادرة عن الوزارة تحدّد سعر البيع من تاجر الجملة إلى تاجر المفرق ومنه إلى المستهلك، أي لا يتم توخي معايير دقيقة عند تحديد الأسعار حيث لا تحتسب تكلفة المنتج ولا يحدد هامش ربح معين ينصف المزارعين، وهذا ما يُطمع التجار ويخولهم تحديد أسعار لمنتجات الفلاحين تتوافق مع مصالحهم المادية، وفي معظم الأحيان تكون الأسعار أقل من تكلفة المنتج ما يرتب خسائر فادحة على الفلاحين، والتاجر يضمن ربحه من خلال الهامش الذي حددته الوزارة، هذا في حال التزم به، إن لم يحدد هامشاً لنفسه يبيع بموجبه، حيث تختلف أسعار الخضار والفواكه واللحوم ضمن أحياء دمشق الراقية وبين سوق شعبي وآخر، وكذلك بين مراكز محافظة دمشق وريفها.
في مرمى الفلاح
وهناك من يرى مبالغة في بخس حق المزارعين ويحمّلهم جزءاً كبيراً من المسؤولية في ارتمائهم بأحضان التجار لتصريف محاصيلهم، فقد رأت مصادر وزارة الزراعة أن مهمة التسويق يجب أن يتصدى لها الفلاحون أنفسهم، وتتساءل ما الذي يمنعهم من ممارسة عملية التسويق المباشر لكي يسلموا أرزاقهم للتجار، وقال: إن الوزارة تعمل على إرشاد الفلاحين وتوعيتهم لتحسين جودة محاصيلهم، ونتواصل مع اتحاد المصدرين والجهات الحكومية المعنية بتسويق المحاصيل الزراعية لإيجاد قنوات لتصريف فوائض الإنتاج.
حلقةٌ ناقصة
مصدر لآخر في الوزارة يرى أن الفلاحين يسوّقون منتجاتهم بعقلية قديمة وتقليدية، كذلك لا توجد لدينا شركات متخصصة بالتسويق الزراعي، حيث يوجد في جميع البلدان شركات تفرز وتوضب الإنتاج بأوزان وأحجام مختلفة ترضي أذواق جميع المستهلكين وبأسعار منافسة، فشركات التسويق تعمل بشكل منهجي ومدروس وتستطيع تغيير الثقافة الاستهلاكية للمواطنين وهي تلعب دوراً كبيراً في الإقبال على المنتج المتوفر في البيئة، وجزء من الحل برأي الدكتور أيوب يكون بالأخذ بتجارب الدول الأوروبية كفرنسا وإسبانيا واستنباط الطرق التي تتبعها في تصريف محاصيلها الزراعية.
أذواق
أما محمد كشتو رئيس اتحاد الغرف الزراعية فقال: إن ثقافتنا التسويقية فيما يخص المحصول الزراعي تحتاج إلى تطوير وتوفير دراسات مسبقة عما يناسب الأسواق التي ستتوجه إليها منتجاتنا ووضع الخطط الزراعية على هذا الأساس، فما يرضي أذواق شعبنا قد لا يناسب شعوباً أخرى، وأضاف كشتو: إن خسائر الفلاحين ناجمة عن وجود فاقد كبير من الإنتاج الزراعي نتيجة عدم وجود شركات متخصصة بالفرز والتوضيب والتبريد، فهناك فاقد تسويقي كبير فلدينا سنوياً 15 مليون مخلفات إنتاج زراعي، ولا بد من الاستفادة من المحصول كاملاً لتحقيق قيم مضافة ولضمان عدم خسارة المنتجين، ونحن كاتحاد غرف نعمل ضمن الإمكانات المتاحة لنا، ولا بد من تضافر جهود جميع الجهات المعنية ونخص تلك التي تتلقى دعماً مالياً من الدولة لتكون مساهمتها فعالة في الترويج للمنتجات الزراعية السورية داخلياً وخارجياً.
ولكي لا نصبح دولة مستوردة للسلع والمنتجات الزراعية، وحتى لا يعزف المزارعون في بلدنا عن العمل الزراعي الذي كان يعمل به حتى وقت قريب أكثر من نصف الشعب السوري، لا بد من إنصاف تلك الشريحة الواسعة من الفلاحين وتقديم كل الدعم المادي واللوجستي لضمان تسويق إنتاجهم وعدم ضياع جهودهم، بما يحقق لها الأمان ويدفعها إلى الاستمرار بالعمل الزراعي.

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]