القراراتُ الارتجالية أخطرُ من العقوبات الاقتصادية وتفاصيل “المنازلة” بين الليرة والدولار تؤكد…!!

الخبير السوري – د. أسيل بنيات
الأزمة مرحلة مؤقتة تمر بها المؤسسة أو البلد، تتميز بظروف عصيبة مغايرة لتلك الظروف التي كانت سائدة عند التخطيط للعمل، ومختلفة تماماً عن الظروف المتوقعة خلال تنفيذ الخطط. وهنا أوجد العالم ما يسمى “الخطط البديلة” أو “خطة الأزمة”، وهي مختلفة عن علم إدارة الأزمة.
إن ما ينقص حكوماتنا المتعاقبة خطط بديلة جاهزة تستخدمها أو تستعين بها خلال الأزمات وهي حاجة ملحة بقدر حاجتنا للخطط العادية. وللمثال فإن الولايات المتحدة الأمريكية، كما هو معروف، تملك خططاً للحرب مع كل دول العالم بما فيها جارتها كندا التي يستحيل ضمن الوقت المنظور حصول حرب كهذه معها، لذلك فهي تتمتع بمركز عسكري قوي. وعليه فإننا اليوم كسوريين بحاجة لخطط استثنائية كهذه نستخدمها في أزماتنا. ونظراً لعدم وجودها بدأت عمليات الاجتهاد في القرارات وخصوصاً الاقتصادية منها، ويجمع علماء الإدارة أن أكثر ما يضر اقتصادنا اليوم ليس الأزمة بحد ذاتها بل ارتباكنا في التعامل معها. والمشهد الاقتصادي اليوم أكبر مثال لهذا الارتباك الذي لم يعد خافياً على أحد وخاصة في الأمور التنفيذية، حيث إننا نرى وضوحاً في استراتيجية البلد لكننا نشهد تخبطاً شديداً في خطط التنفيذ، كما أننا لا نملك ضمن حكومتنا الحالية أو السابقة من يجيد فن إدارة الأزمات فهناك أولويات وهناك خطط تحول الأخطار إلى فرص.
قرارات ارتجالية
إن أكثر ما نستطيع التأثير به خلال فترات الأزمة هو الشخص الفردي ولا أدلّ على ذلك من قيام الكثيرين من ذوي الدخل المحدود والموظفين عند بداية الأزمة بالتوجه إلى إيداع أموالهم دعماً منهم لثبات قوة الليرة. لكن الفعاليات الاقتصادية بجميع قطاعاتها الصناعية منها والتجارية وحتى المصرفية هي العمود الفقري الذي لابد لنا من المحافظة على سلامته كي يحمل معنا الحصار المفروض.
قرار السماح لكل مواطن بشراء 10 آلاف دولار شهرياً وما سببه من تجاوزات على سعر الصرف، واستنزاف لخزينة الدولة من الاحتياطي ثم إعلان التحول إلى التعامل باليورو بدل الدولار، كل ذلك زاد من تخوف المواطنين المودعين بالدولار ودفع البعض منهم إلى سحب أموالهم خشية التأثر بهذه الخطوة، تلاه قرار إداري يقضي برفع سعر الفائدة الدائنة من أجل التشجيع على الإيداع تسبب برفع الفوائد على القروض تلقائياً فأدى إلى انكماش في توظيفات الأموال في المصارف التي كانت أساساً تعاني جموداً بسبب الظروف الحالية التي تتسم بدرجات عالية من عدم التأكد, وعلى وقعه خفضت البنوك حركة إقراضها للحدود الدنيا ما تسبب بشلل وخسائر كبيرة للقطاع المصرفي الخاص أكثر منه للعام. سارع المركزي بعدها إلى تعويض الخسائر عبر تخفيض الاحتياطي الإلزامي من 10% إلى 5% ووصل إلى 0% فيما يخص الموجه منه لتمويل المشاريع التنموية والاستثمارية، أعقبه تحفظ على سياسة بعض المصارف من زيادة الفوائد على أحد الأدوات الاستثمارية ورفع مسؤوليته عنها تاركاً شعوراً بعدم اليقين من كيفية إدارة السياسات الاستثمارية، وهذا بدوره أدى إلى انكماش دور المصارف الخاصة بشكل أكبر ولعبها دوراً سلبياً في تكبير ملامح الأزمة الراهنة لتترك الجمل بما حمل للمصارف الحكومية التي تعاني اليوم تخمة في الإيداعات وقلة في تدابير تصريفها.

تعهُّداتٌ غير ملزمة
دقت وزارة الاقتصاد على صدرها فتعهدت بتأمين الدولارات اللازمة للاستيراد وأصدرت قراراً بتعليق المستوردات فاكتشفت أنها لن تستطيع الوفاء بالعهد فألغت القرار ووعدت ببدائل له, فسمح للمصارف المرخصة بتمويل المستوردات التي يقل رسمها الجمركي عن 1% لكنها لم تكن تملك القطع الأجنبي الكافي للتمويل فسمح لها المركزي بالحصول عليه عن طريق شرائه من أسواق أخرى وبأدوات أخرى ما فرض عليها رسوماً إضافية ستنعكس بشكل أو بآخر على التجار والصناعيين وبالتالي على المواطن والليرة معاً. فقد ألغى القرار احتياجات المواطن على حساب بعض المستفيدين من التجار فتم استيراد المنتجات التي تنتج محلياً على حساب المنتج المحلي بينما حظر استيراد أخرى رغم أننا لا ننتجها.
تجريب
هي إذاً مسألة تجريب للخيارات المتاحة أكثر منها آلية واضحة لإدارة أزمة بحجم الأزمة التي نعيشها اليوم, ورغم كل هذا التخبط الاقتصادي وما فيه من قرار عدم تمويل المستوردات فإنه حتى هذه اللحظة لم تعانِ أسواقنا من نقص في السلع سواء المحلية أو المستوردة , وبقيت الأسواق على طبيعتها خلال سنوات الأزمة حتى دون ارتفاعات كبيرة في الأسعار التي من المتوقع أن ترافق أزمات كهذه, على الرغم من أن التجار والصناعيين كانوا يعانون، وحسب إدراكهم، من أن هناك أزمة تمر بها سورية تشكل خطراً عليهم , وهناك حكومة تتخذ قرارات تجريبية تزيد من أزمتنا وتخلق ضغطاً إضافياً على السوق.

وضع طبيعي
ويقول قائل ويؤيده الكثيرون من الاقتصاديين: إن ارتفاع سعر الدولار عالمياً أمام اليورو سيعطي ارتفاعاً طبيعياً للدولار في السوق السورية ناتجاً عن ارتباط الليرة بالدولار بنسبة وهذا يعكس زيادة على سعر صرفه بنسبة غير قليلة عن الوضع الطبيعي أي القيمة الحقيقية التي وصلت إليها الليرة السورية في السوق الموازية. أما باقي العوامل فهي تعود إلى قرار المركزي عدم تمويل ما تقارب نسبته 45% من مستوردات القطاع الخاص التي تشكل بدورها 70% من إجمالي مستوردات سورية.
تجاهل البعض
إن البنك المركزي لا يعترف بالتجارة البينية التي لا تعتمد مبدأ البوالص, لذا فالمبالغ المحولة لتغطية ثمن السلع المستوردة بهذه الطريقة لن تلقى من يلبيها إلا السوق السوداء, وسابقاً كان سعر المركزي قريباً من السعر الحقيقي للدولار لذا لم يعانِ التجار من هذه المشكلة وكان هناك حرية في تداول الدولار, أما اليوم وبعد أن أصبح من الضرورة توضيح المبرر لشراء الدولار وسعره في السوق السوداء أعلى بكثير فكل هذا شجع السوق السوداء وزاد في الأزمة, كما أن هناك تجاراً لهم علاقات تجارية وثيقة وخاصة بدول الجوار يستوردون سلعهم ويدفعون نقداً في بلد المنشأ وليس من خلال الحوالات, أيضاً هذه الشريحة تعرضت لتجاهل المركزي في حساباته لها. وللمصداقية فإن هذه المخاطر وهذه التكاليف الإضافية لن تجد مستقراً لها إلا جيوب المواطنين والمستهلكين لهذه السلع, وسيقوم التاجر برفع أسعار بضائعه على المستهلك بحجة التكاليف الإضافية الناتجة عن فرق سعر الدولار, كما أن هامش الربح ارتفع كثيراً لدى التجار ليس من منطلق جشع البعض لكن من منطلق المخاطر غير المتوقعة التي يحسب لها التاجر حساباته في ظل ظروف عدم التأكد التي تحيط به اقتصادياً ومالياً وأمنياً.
من الضامن
لكن التوجهات الأخيرة أثارت حفيظة المستثمرين والمؤسسات المالية الأجنبية ولا أدلّ على ذلك من قيام البعض بوقف استثماراتهم وسحب حصصهم من المؤسسات المالية والشركات الكبرى. صحيح أن لها يداً سياسية تحاول الضغط على سورية بشكل أو بآخر، لكن لو لم يكن هناك تقلبات في المزاج الاقتصادي لصانعي القرار لقرروا تحمل الضغوط الكبيرة على حساب الضمان والأمان والربحية في مشاريعهم، لكن من يضمن ألا تظهر قرارات مشابهة في الغد تهزّ السوق من جديد؟.
من سيفوز في المبارزة
كل هذه العوامل أعادت إلى الأذهان الظروف التي خلقت الأسواق الموازية غير النظامية التي نشأت في سورية في العقود الماضية, وكأن حكومتنا اليوم ميالة لإعادة هذه الفكرة المتمثلة بالتهريب والسوق السوداء.
وهنا يحضرنا توصيف لما يحصل في السوق السوداء للعملات بأنها مبارزة بين الليرة والدولار من فئة “كسر العظم” والمشجعون هم الشعب السوري بكل أطيافه بمن فيهم التجار والصناعيون، وقد بدأ الكثير يتحولون من تشجيعهم لليرة خوفاً من أن يكون رهانهم على الحصان الخاسر، والحل المقترح والمستخرج من خطط ألعاب المبارزة هو ضربة قوية فورية وموجعة توجهها الليرة للدولار ضمن سوقنا من خلال المركزي بصفته مدرب الليرة ليعيد إليها جمهورها.
مطلوب فوراً
لذلك لابد من استراتيجية واضحة تصدر عن الحكومة والبنك المركزي توضح طريقة إدارته لأزمة سوق النقد وما هو القادم بشأن الليرة السورية. ولفهم ماهية دور المركزي لا بد من العودة لهدفه الذي هو استقرار سعر صرف الليرة السورية، وهنا نرى أن إعادة تدوير العملات داخلياً قد يكون الحل. فاليوم نحن أمام فرق بسعر الدولار أمام الليرة السورية قد اختلف من بداية الأزمة إلى اليوم بمقدار %800 وفقاً للسوق الموازية التي تعبر بشكل أكثر صدقاً عن حال الليرة السورية. ونعلم أن السوق السوداء تعتمد كلياً على عوامل العرض والطلب دون الأبعاد السياسية أو التنموية، لذا لابد أن نتعامل معها وفقاً لمبدئها ونعمل على رفع العرض. وأنا أميل هنا لمبدأ الصدمة، فعلينا إحداث صدمة في عرض الدولار في السوق بسعر النشرة كي نعيد التوازن لليرة السورية.
وهنا نجد أن جميع الخطط المطروحة من حكومتنا هي خطط مناسبة لأزمة ذات مدة زمنية قصيرة لا تتجاوز الشهر، لكنها حتماً غير مجدية لأزمة عمرها ثمانية أشهر ويرجّح استمرارها سنتين أو ثلاثاً.

وبغض النظر عن كل العوامل التي أدت إلى ارتفاع سعر الدولار فإن تجربتنا كأفراد خلال أزمة 2005-2006 التي ترافقت مع خسائر كبيرة لمن أخذ قرار تحويل مدخراته إلى دولار بسعر صرف السوق الموازي الذي وصل إلى عتبة 60 ليرة ومن ثم باعها بعد انتهاء الأزمة بسعر الصرف النظامي. ولذا هي نصيحة لكل من يمكن أن يقع في غبن تجار العملات الذين يسعون بشتى الوسائل للحصول على أقصى الأرباح حتى لو كانت على حساب استقرار سعر الليرة واقتصاد البلد، فالليرة ستعود إلى قوتها بمجرد زوال أسباب أزمتها الراهنة.

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]