جدل حول تحرير القطاع الزراعي السوري..هذه هي حقائق ما تحت الطاولة

الخبير السوري:

في ظل الواقع الراهن من تقديم دعم بسيط، إن لم يكن معدوماً في بعض الأحيان للمزارع، من تأمين أدنى مستلزمات الإنتاج، يشير الواقع إلى أن ثمة خياراً لم يُعلن رسمياً يتجه نحو تحرير القطاع الزراعي، ولاسيما أن سياسات دعم القطاع لم تكن ناجعة و إنقاذية، وتشكل عبئاً على الجميع، والدليل القصور الواضح في تأمين مستلزمات الإنتاج الزراعي، باستثناء كميات قليلة، وكذلك التوقف عن دعم قطاع الدواجن وغيره من الثروة الحيوانية.

  • في ظل الدعم المتواضع للقطاع الزراعي..هل تحرير هذا القطاع سيكون حلّاً لتحريك عجلة الإنتاج المرتبكة؟

ربما هي فكرة أو مجرّد رأي أو أصوات تطرح: لماذا لا يُحرَّر القطاع الزراعي علناً، ويتم تأمين مستلزمات الإنتاج بأسعار غير مدعومة، بموازاة السماح للتجار بإغراق السوق بالمستلزمات الزراعية، وتحرير أسعار المنتج، لينحصر دور الحكومة بتسهيل عمليات التسويق والتصدير؟ وخاصة إذا ما كانت اقتصادات العالم تقوم على تحرير الأسواق.. هي فكرة مطروحة للنقاش على طريقة ” آخر العلاج….”.

لكن التبعات وفق ما يراه أهل الاقتصاد أن المزارع سيصبح لقمة سائغة بين فكّي التاجر؟ وهذا وحده يساعد في الذهاب نحو سياسة ليبرالية اقتصادية تقوم على تغلغل التاجر وتنسف الأمن الغذائي، ناهيك بخروج مساحات زراعية من الاستثمار لتتحول إلى فلل وقصور للطبقات الجديدة.. ونتناول في هذا الموضوع وجهات نظر أهل الشأن.

غاية في الأهمية

يرى الأستاذ في كلية الزراعة د. سائر برهوم أن موضوع تحرير القطاع الزراعي غاية في الأهمية، وخاصة في الظروف الحالية، التي نرى فيها أنجح الاقتصاديات في العالم، تلك التي تعتمد على تحرير الأسواق، والتي تسود فيها الأسواق التنافسية وليس الاحتكارية، مبيناً أنه في الوقت الذي توجد فيه سوق احتكارية، يكون فيها أكثر من شخص، وهو ما يطلق عليه اسم (احتكار القلة)، وبغضّ النظر عن ماهية هذه السوق أو شكلها كسوق احتكارية، فهي سوق غير سليمة لوجود نشاط اقتصادي في أي قطاع ويقوم باستغلال الموارد بشكل عقلاني، وبالتالي يؤدي إلى أعلى كفاءة، بمعنى؛ استخدام أقل الموارد للحصول على إنتاجية أكثر، وتالياً عائد ربحي أكبر، ومن وجهة نظر بعض الباحثين أن هذه السوق الاحتكارية مدمّرة لأي نشاط اقتصادي، وفي الوقت نفسه حتى ننتقل إلى سوق تنافسية وتكون فاعلة يجب أن تكون لها قوانين وتشريعات تطبّق بشكلها الصحيح.

البيئة المناسبة

يشير د. برهوم إلى أن السياسات الاقتصادية الحكومية في القطاع الزراعي لم تؤت ثمارها بالشكل المطلوب ربما بسبب ارتباك تنظيمي حصل ويحصل، وللأسف أحياناً نقيس نجاح سياساتنا الاقتصادية من باب منع حصول تدهور أكثر، بمعنى عدم حصول خسارة بمقدار أقل، وأحياناً نعتبره نجاحاً، علماً أن للنجاح مقاييس، أقلها الحفاظ على الحالة الموجودة، أي ديمومتها أو تطويرها باتجاه إيجابي، مشيراً إلى أن السياسات الزراعية لم تكن فعّالة ولا تملك الاستمرارية لأسباب عديدة، منها: عدم الإيفاء بوعود قُطعت تجاه المزارعين..على سبيل المثال هناك أصوات تدعو إلى دعم القطاع الزراعي من خلال تأمين المحروقات ومستلزمات الزراعة، والنتيجة تأخير بالدعم والكميات قليلة، وهذا ما أدى إلى ضعف الثقة بين الطرفين؛ الحكومة والمزارع.

  • غياب الخطط التسويقية الضامنة يدفع المزارع ليكون لقمة سائغة بين فكّي التاجر وتالياً نسف الأمن الغذائي

وأضاف: النقطة الأهم هي إذا كانت السياسات الحكومية تقوم على الدعم، وخاصة المحاصيل الإستراتيجية فإنه على أرض الواقع لم تعد تلك المحاصيل الإستراتيجية موجودة، تارة بسبب سوء إدارة القطاع الزراعي على أكثر من منحى، وتالياً عملية تقييم الإدارة تتوقف على نتائج السياسات المعمول بها والقرارات التي اتخذت، وهل حققت أهدافها؟

فعلى سبيل المثال في الفترة الماضية دعا البعض إلى إحياء الشوندر السكري، إلى أين وصلنا في هذا الموضوع؟ وهل اتخذت القرارات المناسبة والإمكانات التي يجب أن تسخّر له؟ بالتأكيد نحن بعيدون عن ذلك والنتيجة تهرّب من تنفيذ الخطط.

غياب التدخّل

ولفت د. برهوم الى أن إلزام المزارعين بتنفيذ الخطط الموضوعة أسلوب غير مجدٍ، وكثيراً ما نرى تهرّباً من تنفيذ الخطط، فمن خلال مقارنة بسيطة للخطة الموضوعة المنفذة على مستوى المساحات والإنتاجية نجد فوارق كبيرة، وتالياً تدخّل الجهات المعنية هو تدخّل في غير مكانه وزمانه الصحيحين.. والنتيجة على أرض الواقع هي الحكم.

  • لتحرير القطاع يجب تأمين مستلزمات الإنتاج والمواد الخام للمزارع

بموازاة ذلك نجد تراجعاً، بل لم نحافظ على ما نحن فيه بسبب ارتباك السياسات في بعض المطارح، مثال القمح، هذا المحصول الإستراتيجي المهم الذي كنّا في الفترات الماضية نتغنّى بالاحتياطي منه لمدة خمس عشرة سنة، واليوم نحن لا نأكل مما نزرع، وصارت لدينا حالة حرجة، ما يؤثّر في أمننا الغذائي.

وفي حال أريد إلغاء هذا التدخل الحكومي.. نحن بحاجة الى بديل مدروس دراسة علمية متأنّية عميقة وكيفية الانتقال. وإذا ما أريد تحرير هذا القطاع فيجب تأمين مستلزمات الإنتاج والمواد الخام للمزارع، وتأمين تصريف المنتجات، مع السماح لمن يريد الدخول إلى هذه السوق. وإذا ما افترضنا أن لدينا قوانين تسمح بوجود سوق تنافسية، فإنه على أرض الواقع نجد أن هذه السوق صعبٌ إيجادها، في ظل غياب العقليات والقوانين التي تدعم وتحاسب، والأهم التي تقف على مسافة واحدة من الجميع.

إنقاذ للاقتصاد

منذ عقود كان القطاع الزراعي يحتلّ المرتبة الثانية في الناتج الإجمالي المحلي بعد النفط، إلّا أنه مع مرور الزمن ووجود الأزمة تراجع القطاع الأول (التعديني)، وبالتالي ظهر القطاع الزراعي كأنه الرقم واحد على صعيد الناتج الإجمالي المحلي، ليس بسبب تقدّمه – وفق د. برهوم – وإنما بسبب تراجعه بوتيرة أقل من التراجع الذي حصل في قطاع النفط، حيث إنّ اقتصادنا الوطني يقوم على مجموعة من القطاعات الاقتصادية أحدها إذا لم يكن أهمها في الوقت الحالي، هو القطاع الزراعي، وبالتالي حين نقوم بالاستثمار في هذا القطاع بشكل صحيح فإننا ننقذ أهم قطاع مؤثر باقتصادنا الوطني، وبالتالي إنقاذ أمننا القومي والغذائي، ناهيك بتحسّن الوضع المعيشي لسكان الريف وإيجاد فرص عمل، ما ينعكس على الاقتصاد ككل.

إذاً في حال أردنا الاستثمار في هذا القطاع بالشكل الأمثل، فيجب التركيز على المزارع، وتقديم الدعم ومستلزمات الإنتاج له وفق آلية معينة، لأنه الحلقة الأساسية في العملية الإنتاجية، مستشهداً بالحمضيات التي عزف الكثيرون عن زراعتها والاتجاه إلى الزراعات الاستوائية، كالمورينغا وغيرها، وهذا ليس إلّا نتيجة من تبعات إخفاق السياسات الاقتصادية الموضوعة، التي أجبرت المزارعين على الإحجام عن زراعات تاريخية مرتبطة بتقاليدنا ومناسبة للمناخ وللتربة .

وختم كلامه بضرورة الاهتمام بالقطاع الخاص لتفعيل دوره، من خلال تحقيق سوق متوازنة تنافسية لكل شخص، من دون تدخّل، وذلك من خلال الاتزان على صعيد العلاقة بين العرض والطلب والسعر في حال وجود أسواق تنافسية تعكس القيمة الحقيقية للسلعة.

السياسات السابقة

يؤكد الباحث إسماعيل عيسى أن الظروف الصعبة خلال الأزمة حتمت ما يشبه السياسات التي تتجه سحب الدعم عن القطاع الزراعي بشكل تدريجي، ويتمثل ذلك في قطاع الدواجن وعدم دعم الأعلاف التي كانت تقدم لهذا القطاع وللثروة الحيوانية، وكذلك للمحاصيل الزراعية من عدم تأمين مستلزمات الإنتاج والمبيدات وغيرها.

وأضاف: إنّ رفع أسعار مستلزمات الإنتاج بصورة غير واقعية، ولاسيما السماد الذي ارتفع سعره بشكل كبير، أدى إلى إحجام المزارع عن استخدامه، وبالتالي النتيجة هي خسارة للفلاح وللإنتاج والبلد ككل. مضيفاً: لا توجد لدى الحكومة خطط تسويقية ضامنة، مثلاً محصول القمح وبعد مماطلة ومطالبة من الاتحاد العام للفلاحين سُعِّر الكيلو الواحد منه بـ 2800 ليرة، رغم التأكيدات أن السعر غير مجدٍ، وهذه الطريقة تدفع المزارع إلى أن يكون لقمة سائغة بين فكّي التاجر، وبالتالي يساعد هذا في الذهاب نحو سياسة ليبرالية اقتصادية، تقوم على تغلغل التاجر وتنسف الأمن الغذائي. ناهيك بانعكاسات خطرة على القدرة الشرائية للمواطن، فاليوم أغلبية المواطنين عاجزون عن شراء “بيدون” زيت زيتون بنصف مليون ليرة، ومع ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية فإنّ المواطن يشتري كيلو البندورة بـ 5 آلاف، في الوقت الذي كانت فيه درعا تنتج 20 ألف طن من الدونم الواحد، وهذا يعدّ رقماً عالمياً وكذلك معامل الكونسروة، كلّها كانت تعمل، وحالياً أغلقت لأسباب معروفة.

البذرة الواحدة بـ3 آلاف ليرة !

وتساءل الباحث عيسى: كيف للمزارع أن يستطيع تأمين مستلزمات الزراعة إذا كان عاجزاً عن شراء البذار؟ فسعر البذرة الواحدة 3 آلاف ليرة، وبالتالي هذا خطر كبير سيؤدي إلى نتائج خطرة، منها: خروج مساحات زراعية عن الاستثمار لتتحول إلى حدائق وقصور وفلل للطبقات الجديدة، وبالتالي لم يعد للسوري الحق بالتفاخر بأنه بلغ المرتبة الأولى بإنتاج القطن أو أن سورية تنافس الهند في إنتاج الكمّون، والأخطر من ذلك منح الأراضي الزراعية لاستثمارات خارجية, لينهي حديثه بأن أشدّ الدول المؤيدة للحريات الاقتصادية هي من تدعم الزراعة، هذه السياسة التي أثبتت جدواها عبر التاريخ المعاصر، وخير مثال الولايات المتحدة التي ترمي محصول القمح في البحر وتشجّع على زراعته.

قوننة شرعية

لم يذهب الباحث الاقتصادي فاخر القربي بعيداً في وجهة نظره عن تحرير هذا القطاع إذا ما تم، إذ يؤكد بأن له إيجابيات تسهم في توافر المواد اللازمة للعملية الزراعية، وهو سبيل لزيادة المحاصيل الزراعية كمّاً ونوعاً، في ظل هذا الدعم الحكومي المتواضع من وجهة نظره – إلّا أن تحرير هذا القطاع يعدّ قوننة شرعية لتهرّب المزارعين من تسليم المحاصيل الإستراتيجية ( قمح- شعير- ذرة) للقطاع الحكومي، وتصريفها في السوق السوداء، كما يدفع واقع الأمن الغذائي إلى ميادين أكثر سوءاً، تدفعنا في كثير من الأحيان إلى استيراد المحاصيل الأكثر حاجة ( القمح – الشعير)، كما أنه يعدّ عنواناً عريضاً ” ارتباك ” في إدارة الملف الزراعي، لذلك لابدّ من وجود خطط علاجية وإجراءات إسعافية تتمثل في: زيادة الدعم الحكومي للفلاح ( مستلزمات العملية الزراعية – زيادة أسعار المحاصيل) .

  • سيكون للأمر تبعات خطرة منها خروج مساحات زراعية من الاستثمار لتتحوّل إلى حدائق وقصور وفلل للطبقات الجديدة

– متابعة عملية تسليم المحاصيل الزراعية ومنع تسرّبها إلى السوق السوداء.

– إجراء عمليات موازنة بين حجم الدعم المقدّم للفلاح للمنطقة المزروعة وحجم المحاصيل التي يتم تسليمها، وبالأخص في أرياف المحافظات، وذلك منعاً للتسرّب الزراعي للمحاصيل.

– التوجيه لمفاصل القطاع الزراعي بضرورة استلام المحصول بغضّ النظر عن درجة الجودة، مادامت الأسعار يتم تقييمها حسب الجودة كي لا نعطي المزارع مسوغاً قانونياً للبيع خارج الجهات المختصة.

– البحث عن محاصيل ذات دورة زراعية أقصر ومردود أكبر يسهم في رفع المستوى الاقتصادي للمزارعين.

هي آراء بعضها متباين، تلخص حالة التشتت في خيارات إنقاذ القطاع الزراعي، لكن مجرد الجدل يبدو مفيداً، لعلنا نخرج برؤى واضحة ونعلنها رسمياً، أو دعم بكل معنى الكلمة، أو تحرير القطاع، ولكلا الخيارين متطلباته ومنظومة الإجراءات المطلوبة لإيفائه ما يلزم…تشرين

بادية الونوس

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]