الخوض في التاريخ ليس سهلاً وقد يزيد حساسية الدراما التاريخية

أحد كبار كتّاب الدراما يستعرض محاذير طرح الأعمال التاريخية

الخبير السوري

عندما قدم المخرج والممثل الأمريكي ميل غيبسون فيلميه «قلب شجاع» و«الوطني» عامي 1995 و2000 منتقداً جرائم الاحتلال البريطاني في اسكوتلندا وأمريكا، لم تثر حفيظة الإنجليز على هذا التنميط وتقديم جيوش بلادهم بتلك الصورة السلبية والأحادية.
الرواية الصينية (حكاية الممالك الثلاث) والتي تتناول الحروب الأهلية في الصين عقب سقوط حكم أسرة (هان) في القرنين الثاني والثالث الميلادي، قدمتها شركات إنتاج يابانية وصينية مرات عدة وبأشكال مختلفة، من أفلام الأنيمشن ومسلسلات الكرتون والأفلام السينمائية الملحمية وأعمال الدراما طويلة الحلقات، ورغم حساسية الموضوع عن قادة صينيين يتقاتلون فيما بينهم طمعاً بالحكم، فإن هذه الأعمال تكاد تكون الأكثر جماهيرية والأشد متابعة في بلاد التنين.

لكن واقع الحال ونمط التفكير إزاء هذه القضايا في منطقتنا يختلف تماماً عن غيره من بقاع العالم، فلا يكاد يفكر منتج أو مخرج بتقديم عمل تاريخي حتى يواجه بعاصفة هوجاء من فئات من الجمهور أو من قادة الرأي، ترفض قصة العمل وتعترض على شخصياته الحقيقية أو كيفية تقديمها.
ونستذكر هنا المصاعب الجمة التي خاضها المخرج الراحل مصطفى العقاد إبان استعداده لتصوير فيلمه الرسالة إنتاج سنة 1976، مع هيئة كبار العلماء في السعودية وهيئة الأزهر الشريف في مصر للسماح بتجسيد شخصيات الخلفاء الراشدين ولكن من دون أن يحصل على موافقة.. هذا الموقف الشائك مع العقاد تكرر مرات عدة، ولاتزال في البال تلك التهديدات التي طالت الأديب الراحل ممدوح عدوان، لأنه اختار تقديم قصة حرب البسوس ونهايتها في مسلسله (الزير سالم) سنة 2000 بصورة لم تعجب شريحة من الجمهور أعلنت عن غضبها وعدّت هذا العمل تشويهاً لصورة شخصية تاريخية حقيقية.
ولقد اعتدنا مع كل عمل تاريخي يعلن عن تقديمه نشوب حرب إعلامية شعواء بين المنتقدين وصناع العمل، ورغم أنها تساهم بطريقة ما في الترويج له، لكنها تعكس بطريقة ما استحضار عقلية الإلغاء والعداوة التي جمعت العلاقة بين الأبطال الحقيقيين للحدث التاريخي لأيامنا، فكما خاض أجدادنا حروباً بين بعضهم، وحكمت علاقاتهم النزاعات، يجب علينا ألا ننسى هذه العقليات ثم نستعيدها وكأن هذه الحروب أو النزاعات وقعت اليوم، ولم تمض عليها قرون وفي كثير من الأحيان آلاف السنين.
ولكن الخوض في التاريخ ليس سهلاً، وهذا ما يبرر الحذر في تعاطيه قبل تقديمه للناس، فإذا كان الحدث نراه أمامنا الآن ثم تتناقله وسائل الإعلام بزوايا مختلفة، فما بالك بأمر وقع في الماضي البعيد!؟، ولقد انتبه للمسألة أحد كبار كتاب الدراما التاريخية وهو الدكتور وليد سيف مستعرضاً محاذير تناولها، عندما تحدث عن تجربته في هذا المجال.. ومن الضروري وفقاً سيف لكاتب الدراما أن يأخذ في بعض المرات دور المؤرخ، فالحدث الواحد نقله كذا مصدر بكذا طريقة حسب تحزبات المؤرخ، ووظيفة الكاتب هنا أن يستخدم أدوات منهجية للبحث العلمي الدقيق، ويعارض الروايات بعضها ببعض، ويتعامل معها تعاملاً نقدياً، والانتباه لما هو مسكوت عنه ولم تسجله المصادر، ولاسيما أن المؤرخين عنوا بتدوين حياة الحكام والقادة، ولم ينقلوا لنا إلا القليل من تفاصيل الحياة الاجتماعية وواقع الناس.

ومما يزيد حساسية الدراما التاريخية تداخل التاريخ مع الدين، أي الدخول في أحد الخطوط الحمراء ما يستدعي إثارة شريحة من الناس هم رجال الدين، ولقد تنبه لهذا الجانب المخرج الراحل حاتم علي فكان يستعين في كل عمل يقدمه بطائفة من المشايخ، إذ كان يلجأ إليهم في المسلسلات التي أخرجها لمراجعة سيناريوهاتها قبل الدفع بها إلى التنفيذ، ولذلك نجد أن رجال الدين أسهبوا بعد رحيله في الإشادة به وبتجربته في الدراما التاريخية أكثر من زملائه.
ولأن الخوض في التاريخ يفيد في استخلاص الدروس والعبر، واستذكار ماضينا بغثه وسمينه اتفقنا أو اختلفنا معه، يجدر بنا كجمهور ونقاد وقادة رأي أن ننظر للدراما التي تتناول فصولاً من تاريخنا بشيء من الأريحية والتقبل، فإنها لن تغير شيئاً مما كان ولن تعيد شخصيات الماضي إلى الحياة أو تبدل مصائرها، وإلا كانت السينما الإيطالية مثلا تجنبت الخوض في تاريخ الرومان لأنهم كانوا وثنيين وكانوا يضطهدون المسيحيين، وتغض الطرف عن منجزهم الحضاري والعمراني.

المصدر: تشرين

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]