جراحة بالقلم الأخضر

ناظم عيد – الخبير السوري:

لم يكن تقليدياً في نهجنا التنفيذي أن يعلن وزير  الحرب على فساد مؤسسات وزارته، ويتحدث بصراحة عن تفاصيل ارتكابات صارخة فيها، وهو ما نحب نحن الإعلاميين عادة أن نسميه ” اعترافات” .

من جهتنا نحن سنعترف بأن هواجس كبيرة اعترتنا ونحن نراقب ما يجري في وزارة حماية المستهلك..من احتمالات إخفاق بغيضة لثقتنا بأن الفساد بات منظومة تعمل بإيقاع متناغم وليس مجرد شراذم موظفين مرتكبين في هذه الوزارة.

والواقع أن الوزير عمرو سالم لم يبدّد هواجسنا بمنشوراته النارية على حسابه في فيسبوك، بل زادها بالفعل لأن الاعتراف و إعلان المواجهة يعني الوصول إلى حالة حديّة لا تتيح الكثير من الخيارات، أي أحد أمرين ..إما صدمة عنيفة لكل متابع – كل مواطن – بالتالي إعلان خفي لانتصار الفساد في وزارة إخراج خلاصات سياسات الأمن الغذائي للمواطن السوري، أو إعادة الآمال المبددة بعد أن استنتج ولمس المواطن – و أحياناً شاهد – مجريات فساد معلن ومتاجرة بلقمته على الأرصفة وفي صالات منسوب إليها مهمة التدخل الإيجابي فكان تدخلها إيجابياً للقائمين عليها فحسب.

فالرجل يتحدث بثقة لافتة و يخبر خصومه أنه قادم ..في وزارة صعبة اختار وزراؤها السابقون مناغاة فسادها وفاسديها و التماهي معهم..بالتالي تجذرت الحالة وتصلبت وربما كادت أن تكون معندة..وهنا منبع التوجسات في الحقيقة.

إلّا أن ما بدأ يرشح من نتائج لوعود الوزير سالم، يبدو جدير بالمتابعة لنا نحن الباحثين عن ” قشّة أمل” لنتعلّق بها ولنسلّط الضوء عليها، و إبراء ذمتنا من تهمة أننا لا نرى إلا الأنصاف الفارغة من الكؤوس، رغم أن الأنصاف الفارغة هي مطرح الرصد الطبيعي لعين الإعلامي، فأن يؤدي وزير مهامه، ليس بالخبر الجاذب، لكن هنا في مضمار حماية المستهلك ثمة استثناء، حيث باتت مخرجات الفساد هي الشيء التقليدي، والعكس بالعكس.

وهنا نجد أنفسنا أمام ما يجري في المؤسسة السورية للتجارة، المصنّفة من كبريات سلاسل تجارة المفرق في المنطقة، وربما ما كان ينطوي عليه أداؤها من فساد هو الأكبر أيضاً، بالتالي تبدو تحدياً صعباً بالفعل لكل من يحاول مقاربتها بنيّات إصلاح حقيقي.

نجح الوزير في اقتلاع ” ثلّة الارتكاب الرئيسة” في هذه المؤسسة، ولا نزعم بأنه تم الإجهاز على كافة ملامح الارتكاب فيها، كما لم يجزم الوزير..لكن المهم أن المجريات حتى الآن مطمئنة، بما أن مراعاة شرط الزمن مطلوبة بإلحاح هنا في مثل هذه ” المهام الخاصّة”.

بالأمس بدأ الوزير سالم بوضع المؤسسة تحت مرصد دوريّات الرقابة التموينية، وهي سابقة أن تكون ” كارفورات الحكومة” عرضة للمساءلة كأي متجر خاص، وهذه سابقة مطمئنة رغم أنها تحتاج لـ” جيش رقابي” لا ندري إن كان لدى الوزير ما يكفي من هؤلاء من حيث العدد والنوع، لكن المهم أن ثمة تحوّل إيجابي حصل..والأهم أن الوزير أعلن أن بحوزته ” وصفة” مديدة لمعالجة هذه المؤسسة الكبرى، بنوافذها التي تطل منها الحكومة على المواطن.. و إن جاز سؤال هنا عن وجهة نظرنا، فسنؤكد أننا متفائلين بناء على معطيات على الأرض.

متفائلون رغم أنه لم يكن في واردنا كإعلاميين،  ولا في وارد كل خبراء استشراف الأفق الاقتصادي السوري، أن تتجه الخطط الحكومية باتجاه تعزيز  حضور الدولة في ميدان تجارة التجزئة ومتى .. على إيقاع طبول التحول إلى مفازات الليبرالية الجديدة التي أعلنتها البلاد منتصف العقد ما قبل الماضي أي منذ حوالي ١٧ عاماً..وهو تحول اتخذ بعداً ثالثاً في التطبيق الليبرالي..أعجبتنا التسمية حينها “اقتصاد السوق الاجتماعي” بنسخته السورية..

لكن أما وأن الحدث القاهر قد حصل على شكل منظومة استهداف بقصد التدمير لهذا البلد..كان لا بأس بل ولا بد من أن تعمل الدولة “تاجر مفرق” وليس مهم التسمية إن كانت تدخل إيجابي أم توصيف آخر..فالأهم هو أن ثمة طيف واسع من الفقراء لا يمكن أن يكونوا إلا رعايا مائدة الحكومة..وقد اتسعت كثيراً دائرة هؤلاء على خلفيات الحرب كعنوان بمئات التفاصيل الموجعة..

خلاصة الخلطة الجراحية العميقة التي جرت على أذرع الحكومة كانت تحت اسم المؤسسة السورية للتجارة..وبالفعل تصدرت هذه المؤسسة عناوين مداولات الإعلام واهتمامات العامة وكذلك اهتمامات الحكومة على التوازي مع تفاصيل الحدث السوري الكبير..وأي تحليل هادئ للمحتوى الإعلامي خلال سنوات الأزمة سيفضي إلى استنتاج أن “السورية للتجارة” ملأت الدنيا وشغلت الناس..لكن المؤسف شغلتنا بحكايا تقصير وارتكاس وفشل والأخطر حكايا الفساد ..فكانت هذه المؤسسة -الإشكالية- صدمة ورضاً حقيقياً للمواطن والحكومة معا..خصوصا خلال السنوات الخمس الأخيرة لأنها خيبت الآمال وأربكت الجميع بالفعل.

على العموم الظرف وقسوته لم يتركا لنا خياراً، إلا التمسّك بإصلاح ” متاجر الحكومة” وإتاحة خيارات تسوق سهلة ورشيقة و الأهم اقتصادية للمستهلك..والتوسع بنشرها أفقياً أكثر و أكثر، لكن على نظافة وليس على فساد، وربما هذا هو مشروع الوزير سالم، وهو مشروع دولة في الواقع آن الأوان لأن يجد إسقاطاته على الأرض.

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]