السياحة في خدمة السياسة تحدي الخروج عن المألوف في ظرفٍ استثنائي .. تحويل ” السياحة المظلمة” إلى إنسانية مضيئة ؟؟

 

 

لعل النمط التقليدي الذي نشأنا عليه في تعاطينا مع السياحة كنشاط اقتصادي، ومع عالمها ومفهومها الواسع الذي يتجاوز حدود المألوف وربما المقبول لدينا، بينما نجد ذلك على العكس تماما عند غيرنا، لعله كان مبررا إلى حد ما قبل الأزمة، لكن و بعد الحرب الإرهابية التي شُنَّت و تشن على سورية و اقتصادها، و التي لم يترك أعداؤها محرما إلاّ و حللوه، نرى أنه قد حان الوقت لنتعاطى مع السياحة من أبوابها الواسعة خاصة و أنها تعد من أهم القطاعات الاقتصادية السريعة التعافي المولدة للدخل و استيعاب العمالة المباشرة و غير المباشرة و الأهم قدرتها على تأمين القطع الصعب.

وإن قُدِّر لنا أن نتعلم درسا من عدونا الإسرائيلي، الذي استغل أزمتنا المؤلمة ليعلن عن نوع جديد من السياحة لم نعهده لكنه مسبوق في مناطق أخرى، وهو سياحة الحروب، حيث أخذ يسوق و يروج لها من خلال برنامج سياحي منتجه الرئيس فيه هو مشاهدة الأعمال القتالية الحية التي تجري على أراضينا، وفعلا استطاع أن يستجلب المهتمون والراغبون بمثل هذا النوع السياحة.

ولكي لا يفهم أحد أننا ندعو لتقليده بشكل أعمى دون اعتبار لأوضاعنا الإنسانية المؤلمة، وأننا لا نتورع عن المتاجر بالمشاعر النبيلة وو..، يجب التوضيح أن دعوتنا للعمل على إعداد برامج سياحي منتجه الأعمال الحربية، تنطلق من مبادئ سامية، على عكس غايات ذلك العدو الذي لا يألو وسيلة إلاّ ويستغلها بغية تحقيق مصالح وعوائد مالية وغير مالية.

دعوتنا لمن يعنيهم الموضوع تنبع من أهمية التركيز على الفوائد التي يمكن تحقيقها وفي مقدمتها إيصال الصورة الصحيحة وتبيان الحقيقة لما يجري في سورية و لماذا يجري و كيف يجري و التكلفة الإنسانية و الاقتصادية و العمرانية و الحضارية الباهظة التي يتحملها الشعب السوري، لا كما يتم نقلها مشوهة عبر ميديا الفتنة الغربية و العربية.

أبعاد هامة

صحيح أن السياحة كفعل اقتصادي ستكون وسيلتنا، لكن الهدف من هذه الوسيلة نبيل ومتعدد الفوائد، إنه ترويج للتعريف بحجم الدمار، و توضيح مباشر لأحقية و صوابية السياسة السورية في مكافحة الإرهاب، و في نفس الوقت كشف للكم الحضاري و الإنساني الذي يمتلكه السوريون، و بالمقابل كشف الأسباب المباشرة و غير المباشرة لاستهداف سورية، و الذي من أهمها الأسباب الاقتصادية، و ليس ما يُدَّعى من ” ربيع عربي” و ديمقراطية و حرية مزعومة، إنها أطماع استعمارية وسيلة تحقيقها المزاعم السابقة.

لم تعد تقتصر

إذا لم تعد السياحة في العديد من دول العالم في الوقت الحاضر تقتصر على مشاهدة المعالم الأثرية والتمتع بجمال الطبيعة بل أصبحت تشمل أيضا قطاعات أخرى البعض منها قد يخطر بالبال كونه يمارس منذ فترة ليست بالقصيرة مثل السياحة الجنسية أو السياحة الكحولية أو السياحة الفضائية، والبعض الأخر يصعب تصوره لأنه يرتبط بالموت ويستخف بحياة الناس وماسيهم وآلامهم ، و هذا ما يطلـــق عليه البروفيسور جـــون لينون اسم ” السياحة المظلمة “.

هنا نتوقف لنسأل بشيء من التحدي: هل نستطيع أن نجعل من تلك السياحة المظلمة، سياحة مضيئة نكون روادها، نستحق عليها أحقية الملكية الفكرية الدولية؟!

في هذا الشأن تناول الإعلام هذا النوع من السياحة بالتحليل و الاستشهاد بالأمثلة عليها، مبينا أن هذا النوع من السياحة يتصدر ما يسمى بالسياحة الحربية أي التي تنظم من قبل مكاتب سياحية مختلقة للإطلاع عن قرب على مجرى الحرب كما جرى مثلا أيام الحرب البوسنية أو بعد انتهاء الحرب، أي للإطلاع على الأماكن التي شهدت قتالا ودمارا كان الأسوأ في أوروبا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

أمثلة و شواهد

وتوضيحا لكل جوانب هذا الموضوع سنقتبس عددا من الأمثلة التي طبقت و تطبق حاليا في العالم و التي جعلت للسياحة مفهوما و آفاق لمنتجات و برامج سياحية جديدة.

عن تجربته يقول زياد يوسوفيتش البوسني أول دليل سياحي حربي في سراييفو عن مهنته: إنه كان يأخذ عن كل شخص 15 دولارا مقابل مرافقته بشكل إفرادي أو ضمن مجموعة في جولة في الأماكن التي جرت فيها الحرب، معترفا أنه بداية الأمر كان يشعر بالخجل بهذا العمل لأنه كان يشعر بأنه يكسب مالا من معاناة شعبه، غير انه يبرر هذا الفعل بالقول: لكن لا احد أراد القيام بهذا العمل كي يشرح للآخرين مباشرة على الأرض أي معاناة مر بها هذا الشعب خلال حرب البوسنة.

وإذا كان من المقبول إلى حد ما هذا التبرير، فان تنظيم جولات سياحية إلى محطة تشيرنوبيل في أوكرانيا والى المكان الذي كان يوجد فيه برج التجارة العالمي في نيويورك والى مدينة نيو اورليانز لمشاهدة ما خلفه إعصار كاترينا أو ما خلفه إعصار تسونامي في دول تقع في جنوب شرق أسيا يبدو غريبا.

ويعترف قائمون على تنظيم رحلات سياحية إلى تشيرنوبيل بان الاهتمام بزيارة الأماكن التي شهدت التسرب النووي قبل أكثر من 20 عاما كبير جدا وأن الحكومة الأوكرانية تفكر بإعطاء منطقة تشيرنوبيل وضعية المنطقة السياحية أما القيمة المالية التي يأخذونها من الشخص الذي يريد الدخول إلى المنطقة التي شهدت كارثة تشيرنوبيل فهي عدة مئات من الدولارات عن اليوم الواحد تتضمن غداء” خاليا من الإشعاعات النووية “.

ويجذب احد مكاتب السياحة الزبائن الباحثين عن المغامرة بعبارات مثل إن آلاف سيارات الشحن والطائرات المروحية والعربات المدرعة المتخمة بالإشعاعات النووية تجعل الخطر كبيرا بمجرد الاقتراب منها، فيما تجذب مكاتب سياحية أمريكية الزبائن بإعلانات تقول: هل تريدون مشاهدة أسوأ كارثة في الولايات المتحدة؟ في إشارة إلى ما خلفه إعصار كاترينا قبل عامين.

تجاوب وكالات السفر..

أمام هذا الجديد يستغرب المتابعون لهذه الظاهرة السرعة التي تبديها الوكالات والمكاتب المختلفة للاستجابة لطلبات البعض ورغباتهم، ففي الوقت الذي كانت فيه المناطق المجاورة لنهر الفلتافا في براغ تغرق قبل عدة سنوات من جراء الفيضانات الكبيرة كانت مكاتب سياحية تشيكية تنظم للسياح زوار العاصمة جولات إلى هذه الأماكن لمشاهدة ما تلحقه هذه الفيضانات من دمار وتخريب، وما تسببه من آلام للناس، كما عبر سياح روس مثلا بعد أيام قليلة من حدوث كارثة تسونامي عن رغبتهم بتنظيم رحلات “معرفية ” إلى الأماكن التي تعرضت للإعصار، وبالفعل جرى تنظيم رحلات للراغبين منهم عن طريق مكاتب تايلاندية نظمت لهم جولات في الأماكن المنكوبة، ولم تغفل حتى زيارة إحدى المشارح التي كانت الجثث تتراكم فيها بانتظار تحديد هوية أصحابها.

كما تحول مركز التجارة العالمية في نيويورك إلى الرمز الأكبر للسياحة المظلمة، فقبل تعرض المركز للهجوم الإرهابي في أيلول من عام 2001 كان يزوره 1.8 مليون سائح سنويا، أما بعد سقوطه فقد تضاعف الرقم واليوم قل أن يوجد مكتب سياحي في نيويورك لا يتضمن برنامجه لزيارة معالم المدينة مشاهدة المكان الذي كان فيه برجا مركز التجارة.

دوافع سياحية

بالعودة للبروفيسور لينون يعتبر هذا النوع من السياحة بأنه الوجه المظلم من الطباع البشرية، مشيرا إلى أن الأمر ليس بالجديد تماما فالطبقة النبيلة البريطانية دفعت أيضا أموالا كي تتمكن من مشاهدة المكان الذي جرت فيه معركة واترلو في عام 1815، أما تفسيره لما يسميه بالسياحة المظلمة فهو أن الإنسان المعاصر لديه اتصال قليل أو محدود بالموت ولذلك فانه يريد أن يشعر بالقرب من الأماكن التي داهمها الموت.

توقعات بالازدهار

بعض خبراء الدلالة السياحية يتوقع أن تكون السياحة المظلمة أحد أكثر أنواع السياحة ازدهارا هذا العام لأن الأماكن المرتبطة بالموت والكوارث والنكبات تمثل أحد اهتمامات السياح المعاصرين، وإذا ما جاز لنا أن ندعو إن أمكن لوجود هذا النوع من السياحة لدينا، فلا بد من تحقيق عدد من المطالب الأساسية لتشكيل المنتج السياحي المقصود، أهمها عمل مسح شامل لعناصر الجذب السياحي بالدولة وبشكل مدروس ومحدد يلبي تحقيق ما نهدف إلى إيصاله من رسائل، و ذلك بالتزامن مع إجراء دراسة كمية للأسواق السياحية توضح حجم الطلب السياحي المتوقع من حيث عدد السائحين المهتمين بهذا النوع وإجمالي الليالي السياحية وغير ذلك كعمل تصنيف السائحين تبعا للهدف، لعل هذا وما يجب الإعداد والتحضير له في مقبلات العمل السياحي المختلف.

الخبير السوري – البعث

 

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]